خزانة العلوم، لأمير المؤمنين بالأندلس الحكم المستنصر بالله بن عبد الرحمن بن محمد القرشي الأُموي (302-366هـ/ 914-976م)، كانت أعظم وأكبر خزانة للعلوم في العالم في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، وقد تدفَّقت إليها نفائس الأسفار من كلِّ قُطْرٍ، وعجَّت بالمجلدات والدفاتر، وأخلاط الموظَّفين؛ من نُسَّاخٍ ومُجلِّدين، ومصحِّحين، وغيرهم؛ حتى ضاقت أركانها، وانفردت بصرحٍ مستقلٍّ بها، ثم طالتها يد الزمان، فحلَّ بها ما حلَّ بكثيرٍ من تراثنا؛ فتهاوت أركانُها، وانطفأت أنوارُها، وظلَّت ذِكْراها مأساةً ضاربةً في وجداننا.
لم تكن هذه الخزانةُ الوحيدةَ في العالم بهذه الضخامة والنفاسة والعظمة، إنَّما هي واحدةٌ من أعظم ثلاث خزائن للكتب في العالم:
فالأولى: هي خزانة الخلفاء العباسيين ببغداد؛ كانت تَضُمُّ ما لا يُحصَى من الكتبِ كثرةً، ولا يقوم عليه نفاسةً، ولم تزل على ذلك إلى أن اجتاح التتر بغداد، وقَتَلَ ملكُهم هولاكو المستعصمَ آخرَ خلفائهم ببغداد، فذهبت خزانةُ الكتب فيما ذهب، وحلَّت بالأُمَّةِ مصيبةٌ كبيرةٌ في تراثِها.
والثانية: خزانة حُكَّام مصر العُبيديين؛ وكانت من أعظم الخزائن وأكثرها جمعًا للكتب النفيسة من جميع العلوم، ولم تزل على ذلك إلى أن انقرضت دولتهم بموت العاضد آخر ملوكهم، واستيلاء السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب على المملكة بعدهم، فاشترى القاضي الفاضل أكثر كتب هذه الخزانة، ووقفها بمدرسته الفاضلية بدرب ملوخيا بالقاهرة، فبَقِيَت فيها إلى أن تفرَّقَت بين الأيدي ولم يبقَ منها إلا القليل.
والثالثة: خزانة المستنصر بالله الحكم بن عبد الرحمن الناصر الأُموي (ت: 366هـ)؛ كانت من أعظم خزائن الملوك على الإطلاق، وهي موضوع بحثنا هذا.
وقد جردْتُ -لتتبُّع خزانته- الكثير من المراجع، وتقصَّيْتُ من تفاصيلها مادَّةً تراكمت عندي، حتى رأيتُ أن أفردها بكتابٍ مستقلٍّ، يُقرِّب للقارئ خلاصةَ ما وقفتُ عليه من تلكم الأخبار، وينفخ فيه شيئًا من روح العزيمة والفخر، ولا يخلو من خبرٍ طريفٍ، وحديثٍ مؤنسٍ، وعبرةٍ مؤثرةٍ.
وقد كان من تمام البحث -بل من ضروراته- أن نُقدِّمَ بتعريفٍ عن المستنصر بالله صاحب تلك الخزانة العظيمة، نذْكُر فيه طرفًا من سيرته وشمائله وعنايته بالعلم، ثم نشرعَ في تقصِّي أخبار خزانته، وإنشائها، وعرضِ صورٍ من عنايته بها، وأصنافِ القائمين عليها، ثم ما آلت إليه بعد وفاته.
صاحب الخزانة:
هو: أمير المؤمنين المستنصر بالله الحكم بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أُميَّة القرشيُّ الأُمويُّ المروانيُّ؛ (302 - 366هـ/ 914-976م).
وقد وصفه العلماء والحكماء بأنه كان قيُّوم المعرفة، عالمًا عاملًا، فقيهًا، خطيبًا مِصْقعًا، راويةً للحديث، عالمًا بالمذاهب، مؤرِّخًا، إمامًا في النَّسَب، ثبتًا، شاعرًا، بصيرًا بالأدب والشعر، جامعًا للعلم، مُكرِمًا للعلماء.
وعُدَّ من أكثر ملوك الأندلس حُبًّا للعلم، وأكثرهم اشتغالًا به وحرصًا عليه، وأشدَّ الناس صبابةً به، لا سِيَّما الأخبار والمقالات؛ ولم يكن في بني أُميَّة بالأندلس أعظمُ همَّةً في مطالعة العلوم، ولا أجلُّ رتبةً في العلم وغوامض الفنون، ولا أكثرُ معرفةً بأخبار العلماء منه، وقد استفاد العلماء من علومه وتراثه.
سلطانه:
أمَّا عن سلطان المستنصر بالله وحياته السياسية، فقد كان أمير المؤمنين بالأندلس، وابن ملوكها، وخاتمة العظماء من بني أُميَّة، وإليه انتهت الأُبَّهة والجلالة، والعلم والأصالة، والآثار الباقية، والحسنات الراقية، وهو صاحب الفتوحات العظيمة بالأندلس.
جعله والدُه أميرُ المؤمنين الناصرُ لدين الله وليًّا للعهد، فزان مُلكَ أبيه وزاد في أُبَّهته، وقام بأمره أحسن قيام، وبعد وفاة أبيه بُويِعَ بالخلافة في سنة 350هـ، وعُمُره آنذاك سبع وأربعون سنة، وأول أمر فعله بعدما تمَّت له البيعة، إيقافُ ربع ما جَرَّته إليه الوراثة عن أبيه، على ثغور الأندلس كافَّةً؛ تُفرَّق عليهم غلَّات هذه الضياع عامًا بعد عامٍ، على ضُعفائهم.
ثم أخذ في إبرام أمره وإصلاح شأنِ رعيَّتِه؛ فأحسنَ إليها، وحطَّ وظائفها، وسرَّح السجون، وأخذ بالرِّفق، وأخرج مائة ألف دينارٍ برسم الصدقة، وفدى الأسارى، وأدَّى عن أهل الديون، وأوقف حوانيت السَّرَّاجين بقرطبة، على المعلِّمين الذين قد كان اتَّخذهم لتعليم أولاد الضعفاء والمساكين القرآن، وأسقط سُدس جميع المغارم عن الرعايا بجميع مناطق الأندلس.
وكان في سياسته معدودًا من أهل الدين والفضل والورع؛ إذ كان من أعدلِ الملوك وأتقاهم، وأعلمِهم وأحلمِهم، وأحمدِهم وأحسنِهم سيرةً، وأرفعِهم قدرًا، وأعلاهم ذِكْرًا؛ عدل في الرعيَّة وأحسن إليها، ولم تلحقهم في أيَّامه مذلَّةٌ، وضبط الثغور، واشتهر بهمَّته في الجهاد في الأندلس، وكان مواصلًا لغزو بلاد الروم، وفَتَحَ فيها حصونًا ومدنًا جليلةً، وظلَّ متربِّعًا على عرشه إلى يوم وفاته بقصره سنة 366هـ/976م؛ فكانت خلافته خمس عشرة سنةً وخمسة أشهرٍ.
نشأته:
نشأ المستنصر بالله مُحبًّا للعلم والعلماء، مُكرِمًا لهم ومُحسنًا، يحضر مجالسهم، ويسمع منهم، ويروي عنهم، وما ذاك إلا حُبًّا في العلم ورغبةً في الإشراف عليه، والاطلاع على شؤونه، وسعيًا لاقتناء أصوله وفروعه؛ فأصبح ذا نَهْمةٍ مفرطةٍ في العلم والفضائل.
قال المؤرِّخ أحمد بن محمد القرطبيُّ (ت: 420هـ): «كان الأمير الحكم بن الناصر لدين الله -وليُّ عهد المسلمين- وأخوه عبد الله، يتباريان في طلب العلم، ويتناغيان في جمعه، ويتبادران إلى اصطناع أهله، واختصاص رجاله، وإدناء منازلهم، والإحسان إليهم».
ثم اقتنى هذا الفتى الهُمام الكتب النفيسة، واستنسخ الأوضاع المفيدة، وبحث عن الأصول الرفيعة، ونقَّر عن الخطوط المنسوبة، واستجلب المؤلَّفات من البلدان الشاسعة والأقاليم النائية، حتى غُصَّت بها أماكنُه، وضاقت عنها خزائُنه، باذلًا في ذلك الأموال الجليلة، ومُتجشِّمًا له الكُلَف الباهظة، قد حُبِّب إليه ذلك منذ صباه، واستعمل نفسه فيه من وقت إدراكه، وآثره على جميع ما يستهوي الملوك من شهوات الدنيا؛ فلم يستحل عنه، ولا فتر فيه إلى حين وفاته؛ فاستوسع علمُه، ودَقَّ نظرُه، وجمَّتِ استفادتُه.
وكان من أعظم الروافد لإذكاء حركة التأليف لدى المستنصر بالله، حثُّه للعلماء، وإثارة الهمم لديهم في تأليف الكتب النافعة، وما تحتاجه الأُمَّةُ ويُشبع فضولها؛ فرضيت قرائح العلماء، وأُلِّفَت المئات من المؤلفات؛ والشواهد على ذلك كثيرةٌ، منها: أمره العلماء بالتأليف فيما تحتاجه الشريعة إلى تأليفٍ وتحريرٍ، وكذا اللغة، وكتابة التاريخ وأنساب القبائل، وتصحيح الكتب، وتقييد الآثار؛ حتى ذُكر أنَّ الإمام محمد بن الحارث بن أسد الخشنيَّ الأندلسيَّ (ت: 361هـ)، ألَّف له مائة ديوانٍ في كثيرٍ من فنون العلم، وكذا الإمام عبيد الله بن عمر بن أحمد القيسيّ الشافعيّ البغداديّ (ت: 360هـ)، ظلَّ يؤلِّف للمستنصر بالله إلى أن مات.
وقد أشار الإمام محمد بن الحارث الخشنيُّ الأندلسيُّ (ت: 361هـ)، في مقدِّمة تأليفه عن قضاة قرطبة وعلماء إفريقيَّة، إلى هذه المنقبة للمستنصر بالله، قائلًا: «حرَّك أهل العلوم؛ ليستحفظوا ما أضاعوا من غرر الأخبار، وتقييد ما أهملوا من عيون المعارف، والعلوم، والآثار، والأنساب؛ وأنَّ في ذلك إشادةً بفضائل السلف، والتقليد لمناقب الخلف؛ وللتذكير بالمنسيِّ من الأنباء، والإشارة للسالف من القصص، وبخاصَّةٍ ما كان في مِصره قديمًا، وفي عصره حديثًا؛ وأنَّ في ذلك سببًا قويًّا لحياة القلوب، وعلَّةً ظاهرةً لنباهة النفوس».
وهذا من دلائل الازدهار المعرفيِّ الذي بلغ ذروة مجده في أيَّام المستنصر بالله.
خزانة العلوم:
دلَّلنا سابقًا على أنَّ أمير المؤمنين المستنصر بالله كان يتصدَّر مشروعًا علميًّا ضخمًا، استولى عليه بالكليَّة، وأنفق فيه ثروةً طائلةً؛ فلا غرابة حينئذٍ أن تتضخَّم مكتبته العلميَّة، إلى أن تصبح من أعظم وأكبر المكتبات في العالم كلِّه وليس في العالم الإسلامي فقط؛ حيث إنَّه جمع من الكتب ما لم يجمعه أحدٌ من الملوك، لا قبله ولا بعده؛ وتطلَّبها، وبذل في أثمانها الأموال والذهب، وأعطى تُجَّارها ما شاؤوا من الأموال، وجُلبت له الكتب من البلاد البعيدة بأغلى الأثمان، وحُملت من كلِّ جهةٍ إليه، حتى غُصَّت بها بيوتُه، وضاقت عنها خزائنُه، ولم يُسمَع في الإسلام بخليفةٍ بلغ مبلغه في اقتناء الكتب، واجتمعت بالأندلس خزائن من الكتب لم تكن لأحدٍ من قبله ولا من بعده -إلا ما يُذكر عن الناصر العباسيِّ ابن المستضيء - وأقام للعلم والعلماء سُوقًا نافقةً، جُلبت إليها بضائعه من كلِّ قُطْرٍ؛ قال المؤرِّخ صاعد بن أحمد الأندلسيُّ (ت: 462هـ): «الأمير الحكم المستنصر بالله، استجلب من بغداد ومصر وغيرهما من ديار المشرق، عيونَ التواليف الجليلة، والمصنَّفات الغريبة في العلوم القديمة والحديثة، وجمع منها في بقية أيَّام أبيه، ثم في مُدَّة ملكه من بعده؛ ما كاد يضاهي ما جمعته ملوك بني العباس في الأزمان الطويلة، وتهيَّأ له ذلك بفرط محبَّته للعلم، وبُعْدِ همَّته في اكتساب الفضائل، وسُمُوِّ نفسه إلى التشبُّه بأهل الحكمة من الملوك».
وقد تأثَّر الأندلسيُّون بحُبِّ ملوكهم للكتب؛ فأصبحت قرطبة -عاصمة المستنصر بالله- أكثرَ بلاد الأندلس كتبًا، وأشدَّ الناس اعتناءً بخزائن الكتب، وصار ذلك عندهم من آلات التعيِّين والرِّياسة؛ حتى إنَّ الرئيس منهم الذي لا تكون عنده معرفةٌ، يحتفل في أن تكون في بيته خزانة كتبٍ، وينتخب فيها، ليس لشيء إلَّا لأن يُقال: فلانٌ عنده خزانة كتبٍ، والكتاب الفلانيُّ ليس هو عند أحدٍ غيره، والكتاب الذي بخطِّ فلانٍ قد حصَّله وظفر به.
مبنى خزانة العلوم:
ولما كثرت كتب المستنصر بالله، اضطرَّ إلى إنشاء صرحٍ عظيمٍ خاصٍّ بالمكتبة، بالقُرب من القصر، ونُقلت إليه الكتب، واستمرَّ العمل في نقلها ستَّة أشهرٍ، وفي ذلك دلالةٌ كافيةٌ على ضخامتها، وكثرة ما كانت تحتويه من الكتب والمجلَّدات، حتى ذُكِرَ أنَّها قُدِّرت بنحوٍ من مائتي ألف سِفْرٍ، وقيل: إنَّها أربعمائة ألف مجلَّدٍ؛ وأخبر تليد -القائم على خزانة المستنصر بالله- أنَّ عدد فهارس خزانته التي فيها أسماء كتبه، أربع وأربعون فهرسةً، في كلِّ فهرسة خمسون ورقةً، ليس فيها إلَّا ذِكْر أسماء الدواوين فقط.
موظفو خزانة العلوم:
لا شكَّ أنَّ خزانةً بهذه الضخامة، كانت تحتاج إلى فريق عملٍ متكاملٍ؛ من إداريين يديرون شؤون الخزانة، ووَرَّاقين؛ من نسَّاخٍ، وخطاطين، ومجلِّدين؛ ممَّن يجيدون فنَّ النسخ والخطِّ والتجليد؛ وإلى فريقٍ آخر من المصحِّحين، تُدفَع إليهم الكتب لمقابلتها وتصحيحها، إلى جانب الوكلاء الذين كانوا يسافرون لجلب الكتب لها من الأماكن البعيدة في المشرق والمغرب.
ولم تذْكُر المصادر جميعَ أسماء أولئك العاملين، سوى عددٍ قليلٍ منهم، ولا شكَّ أنَّهم كانوا عددًا كبيرًا؛ وذلك إزاء ما يتطلبه العمل من جهدٍ كبيرٍ، حتى قدَّرهم أحد الباحثين بأنَّهم زادوا على سبعمائة شخصٍ؛ كلُّ هذا الفريق كان يعمل دون توقُّفٍ، كلٌّ في تخصُّصه، وتدفع لهم الدولة مرتَّباتهم، بيد أنّ المصادر لم تُشِرْ إلى مقدار تلك المرتَّبات، ولا شكَّ أنَّها كانت سخيَّةً، لا سِيَّما أنّ هؤلاء الموظفين كانوا من فئة أكابر العلماء، بل إنّ بعضهم كان ممَّن قد بلغ المُنتهى في فنِّهِ.
وأمَّا عن الأموال التي أُنفِقَت في شراء الكتب فكثيرة جدًا ولا يمكن حصرها، فمنها على سبيل المثال ما أُنفِقَ من طريق أحد وكلائه، وهو: عمر بن محمد بن إبراهيم العامريُّ البجَّانيُّ الأندلسيُّ، المعروف بابن الرفَّاء (ت: 380هـ)، فكان مقدار ما اشتراه للمستنصر بالله من العراق -كما سيأتي- مائة ألفٍ وعشرين ألف دينارٍ؛ وهذا مبلغٌ ضخمٌ، يدلُّ على كثرة الكتب التي جُلِبَت من المشرق.
خازن خزانة العلوم (مدير المكتبة):
أمَّا خازن الخزانة فقد أشارت المصادر إلى شخصٍ واحدٍ، يُسمَّى: تليدًا، وهو مولى المستنصر بالله؛ يقول العلَّامة ابن حزمٍ الأندلسيُّ (ت: 456هـ): «كان على خزانة العلوم: تليد».
وكلاء المستنصر بالله في شراء الكتب:
وظّف المستنصر عددًا كبيرًا من الوكلاء الذينَ تفرّقُوا شرقًا وغربًا، يفتِّشون عن النفائس، ويتخيَّرون أجاويد النسخ؛ لتزفَّ تلكم الثمائنُ إلى خزانة المستنصر بالله؛ وقد حفظت لنا المصادر بعضَ أسماء أولئك الوكلاءِ، مثل:
1 - عمر بن محمد بن إبراهيم العامريُّ البجَّانيُّ الأندلسيُّ، قاضي بجَّانة.
2 - محمد بن إسماعيل القرطبيُّ، المعروف بالحكيم، العالم النحويُّ.
الورَّاقون في خزانة المستنصر بالله:
وهم: النسَّاخون والخطّاطون والمجلِّدون؛ وقد كان ورَّاقوه من حُذَّاق الصِنعة، والماهرين في الضبط، والمجيدين فيها؛ سواء ممَّن كانوا يعملون داخل المكتبة، أو خارجها ممَّن كان يوجِّههم إلى الآفاق؛ لينتخبوا له غرائب المصنَّفات والكتب، ومن أولئك الذين ذَكَرتهم المصادر:
1 - أحمد بن سعيد بن مقدس الإلبيريُّ الأندلسيُّ (ت: حدود360هـ)؛ وقد كان نحويًّا لغويًّا ضابطًا للكتب، ونسخ للمستنصر بالله كثيرًا من الكتب.
2 - إبراهيم بن سلم الإفريقيُّ ثم القرطبيُّ الورَّاق؛ وقد كان شيخًا صالحًا أديبًا.
3 - إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن جعفر الأُمويُّ الأصيليُّ.
4 - إسحاق بن محمد بن إسحاق بن مُنذر القرطبيُّ؛ وقد كان من أهل الأدب والفهم.
5 - ظفر البغداديُّ ثم القرطبيُّ؛ وقد كان من رؤساء الورَّاقين المعروفين بالضبط وحُسن الخطِّ، كعباس بن عمرٍو الصقليِّ، ويوسف البلوطيِّ، وطبقتهما.
6 - عباس بن عمرو بن هارون الصقليُّ الورَّاق (ت: 379هـ)؛ اتصل بالمستنصر بالله أيَّام كان وليًّا للعهد؛ فتوسَّع له في الرزق، وصار من جُملة الورَّاقين؛ وقد كان حَسَن الحكاية، بصيرًا بالردِّ على أصحاب المذاهب، عالمًا بالكلام.
وجماعةٌ من أهل المشرق والأندلس.
وأمَّا المُجلِّدون -وهم الذين يقومون بعمل كسوةٍ للكتاب من الجلد والحياكة؛ ليحفظ أوراقه من التلف- فقد جمع المستنصر بالله بخزانته الحُذَّاقَ والمهرةَ منهم.
مصحِّحو كُتب المستنصر بالله:
تصحيح الكتب وضبطها يتمثَّل في صيانتها، وإخراجها صحيحةً سليمةً من التحريف والزيادة والنقص، ويشمل: الإصلاحات، وإلحاق الكلمات الساقطة سهوًا من المؤلِّف أو الناسخ، وتصحيح ما وقع منهما من تصحيفٍ وتحريفٍ في الأسماء والألفاظ، وضبط المُشْكِل منها، ثم إثبات الفروق التي بين نسخ الكتاب الواحد، وغيرها من أصول الضبط والتصحيح، التي من شأنها تقويم الكتاب وإخراجه موافقًا لمراد صاحبه؛ ويستدلُّ العلماء بهذه الإلحاقات والإصلاحات على صحَّة الكتاب وسلامته؛ قال الإمام الشافعي (ت: 204هـ): «إذا رأيت الكتاب فيه إلحاقٌ وإصلاحٌ فاشهد له بالصحَّة».
هذا العلم قد أَصَّله وضبطه علماؤنا منذ فجر الإسلام الأوَّل، بل من عهد النبوَّة؛ فإنَّ نبيَّنا صلى الله عليه وسلم قد عرض القرآن على جبريل، فهو أوَّل مَن سَنَّ لنا سُنَّة العرض؛ ليتأكَّد المعارض من سلامة ما حفظه أو ما نسخه من كتب شيوخه.
وقد كان فريق عمل خزانة المستنصر بالله يضمُّ عددًا من كبار العلماء المتفنِّنين في العلوم، يقومون بتصحيح كتب الخزانة ومقابلتها؛ حتى أصبحت كتبه مضرب المثل في الصحَّة والإتقان؛ قال الفقيه أحمد بابا التنبكتيُّ (ت: 1036هـ): «خزائن كتب المستنصر في غاية الصحَّة؛ بحيث إذا اطلع على ما قوبل بأصلٍ منها -ولو بوسائط- اطلع في غاية الصحَّة»؛ فمن مصحِّحيه:
1 - أحمد بن عبد الوهاب بن يونس القرطبيُّ (ت: 369هـ)، المعروف بابن صلَّى الله، الفقيه العالم بالخلاف؛ قال الحافظ المؤرِّخ ابن الفرضيِّ الأندلسيُّ (ت: 403هـ): «كان رجلًا حافظًا للفقه، عالمًا بالاختلاف، ذكيًّا، بصيرًا بالحِجَاج، له حظٌّ وافرٌ من العربية واللغة، وسار في جُملة المقابلين للمستنصر بالله».
2 - أحمد بن محمد بن يوسف المعافريُّ القرطبيُّ (ت: 372هـ)، العالم المُحدِّث؛ كان من أهل العلم بفنونٍ كثيرةٍ؛ من الفقه، والحديث، والعربيَّة، واللُّغة؛ قال القاضي عياضٌ اليحصبيُّ (ت: 544هـ): «استعمله الحكم المستنصر في خطة المقابلة».
3 - إسماعيل بن القاسم أبو عليٍّ القاليُّ البغداديُّ (ت: 356هـ)، العلَّامة اللُّغويُّ؛ قال الأديب عليُّ بن محمد بن أبي الحسين الأندلسيُّ: «وجدتُ بخطِّ أبي قال: أَمَرَنا الحكم المستنصر بالله بمقابلة كتاب: «العين» للخليل بن أحمد؛ مع أبي عليٍّ إسماعيل بن القاسم البغداديِّ».
4 - محمد بن أبي الحسين الأندلسيُّ، عالمٌ باللغة والأدب؛ قال المؤرِّخ الضَّبِّيُّ الأندلسيُّ (ت: 599هـ): «كان في أيَّام الحكم المستنصر بالله أثيرًا بالعلم عنده، وقد أمره بمقابلة كتاب: «العين» للخليل؛ مع أبي عليٍّ البغداديِّ، في دار المُلك التي بقصر قرطبة».
5 - محمد بن إسحاق بن منذرٍ اللخميُّ (ت: 376هـ)، المعروف بابن السليم، قاضي الجماعة بقرطبة؛ كان حافظًا للفقه، بصيرًا بالاختلاف، عالمًا بالحديث، ضابطًا لما رواه، متصرِّفًا في علم النحو واللُّغة؛ قال المؤرِّخ ابن حيان القرطبيُّ (ت: 469هـ): «استخدمه الحكم المستنصر في مقابلة دواوين بيت حكمته، الذي حوى من كتب العلم ما لم يَحْوِ بيتُ ملكٍ».
6 - محمد بن يحيى بن عبد السلام الأزديُّ الرباحيُّ الأندلسيُّ (ت: 358هـ)، الإمام الفقيه النحويُّ؛ قال إمام النحو المؤرِّخ محمد بن الحسن الزبيديُّ الأندلسيُّ (ت: 379هـ): «صار إلى خدمة أمير المؤمنين المستنصر بالله في مقابلة الدواوين والنظر فيها، وتوسَّع له في النُّزل والجِراية».
فإذا كان هؤلاء العلماء الكبار، هم الذين كانوا يقومون بعملية التصحيح والمقابلة لكتب هذه الخزانة، فلا شكَّ أنها ستكون في غاية الضبط والإتقان، ولا عجب حينها أن تكون محلّ إشادة لدى العلماء والمحققين، ممَّن اطلعوا عليها وأفادوا منها.
محتويات خزانة العلوم:
احتوت الخزانة نفائسَ ما ألَّفه العلماء في شتَّى العلوم، منها: القرآن وعلومه، والحديث وعلومه، والفقه وعلومه، واللغة وعلومها، والتاريخ، والأدب، والنَّسَب، والفلك، والفلسفة، والكلام، والطبُّ، والحساب، والحيوان، وغير ذلك؛ وبسبب اختفاء فهارس خزانته المتكوِّنة من أربعٍ وأربعين فهرسةً، فَقَدْنا أسماء هذه الكتب، ولم نقف إلَّا على أسماء القليل منها، وسنذْكُر بعضها:
* كتب القرآن وعلومه، ومنها:
كتاب: «الوقف والابتداء» للإمام، حبر القرآن، وأحد القُرَّاء السبعة، نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم الليثيِّ، مولاهم، المدنيِّ؛ جَلب هذا الكتاب النفيس إلى الأندلس: عبد الملك بن إدريس البجَّانيُّ الأندلسيُّ، بروايته له عن أبي عبد الله محمد بن جعفرٍ الأنماطيِّ المصريِّ، سنة 345هـ، فلمَّا علم المستنصر بالله بخبر هذا الكتاب، أمر بنسخ نُسخةٍ منه، ثم قابلها مع عبد الملك البجَّانيّ في رمضان سنة 348هـ.
* كتب الحديث وعلومه، ومنها:
1 - كتاب: «الموطأ» للإمام مالك بن أنسٍ الأصبحي، رواية تلميذه يحيى بن يحيى الليثيِّ؛ وقد سمعه المستنصر بالله من المُحدِّث المُسنِد أحمد بن مُطرِّف بن عبد الرحمن الأزديِّ القرطبيِّ، عن عبيد الله بن يحيى، عن يحيى بن يحيى الليثيِّ، عن الإمام مالك بن أنسٍ.
2- كتاب: «سنن أبي داود» للإمام الحافظ سليمان بن الأشعث الأزديِّ السجستانيِّ؛ لدى المستنصر بالله نُسختان عتيقتان منه، وقد بعثهما إلى المستنصر بالله راوي الكتاب: الحافظُ أبو بكرٍ محمد بن بكر بن عبد الرزاق التمار، المعروف بابن داسة؛ وفيهما خطُّ يده.
3 - كتاب: «المُجْتَنَى» -بالنون- للإمام الحافظ مُحدِّث الأندلس، قاسم بن أصبغ القرطبيِّ؛ وهو مختصرٌ من كتابه المصنَّف في السنن على أبواب كتاب أبي داود، وخرّج الحديث من روايته عن شيوخه، وهو مصنَّفٌ جليلٌ، والمختصر ابتدأ اختصاره في المحرَّم سنة 324هـ، وجعله باسم الحكم المستنصر بالله، وفيه من الحديث المسند ألفان وأربعمائة وتسعون حديثًا، وهو في سبعة أجزاء.
4 - كتاب: «الدلائل في شرح غريب الحديث» لثابت بن قاسم بن ثابت بن حزمٍ السرقسطيِّ؛ وقد كتبه المؤلف للمستنصر بالله وأجازه بروايته، وهو كتابٌ نفيسٌ أثنى عليه العلماء.
* كتب الفقه وعلومه، ومنها:
1 - كتاب: «الشافعي الكبير» للإمام الفقيه محمد بن إدريس القرشيِّ المطلبيِّ الشافعيِّ؛ كتبه بخطِّه المُحدِّث الثقة يوسف بن محمد بن سليمان الهمدانيُّ الشَّذْوَنِيُّ، وهو عشرون ومائة جزءٍ.
2 - تبويب «المستخرجة» للفقيه محمد بن عبد الله بن سيِّد البجَّانيِّ الأندلسيِّ المالكيِّ؛ بوَّبها للمستنصر بالله، وسُمِّيت «المستخرجة» بهذا الاسم؛ لأنّ مؤلَّفها استخرجها من الروايات والأسمعة المغمورة، التي رُوِيَت عن الإمام مالك، أو التي وقع في بعضِ مسائلِها شيءٌ من الشذوذ والغرابة.
3 - كتاب: «الاتفاق والاختلاف في مذهب مالك» للإمام الحافظ محمد بن الحارث بن أسد الخُشنيِّ؛ وقد ألَّفَه للمستنصر بالله، وهو في محاضر القضاة وسِجِلَّاتهم.
4 - مختصر الإمام الفقيه المُحدِّث أبي مصعبٍ أحمد بن أبي بكرٍ الزهريِّ (ت: 242هـ)، في الفقه المالكي؛ وهو خُلاصات ما تلقَّاه مشافهةً عن شيخه مالك بن أنسٍ من آراءٍ فقهية، بعد أن انتقى منها ما يصلح لأن يُرتَّب على الأبواب؛ وقد نسخ الكتابَ حسينُ بن يوسف -عبدُ أمير المؤمنين المستنصر بالله- وما زالت نسخته الخطِّية بحمد الله باقية إلى يومنا هذا، في مكتبة جامع القرويين بفاس، مكتوبةً على ورق بُنِّيٍّ عتيق بقرطبة، وقد كُتِبَ في آخره: «وكتب: حسينُ بن يوسف -عبدُ الإمام الحكم المستنصر بالله أمير المؤمنين، أطال الله بقاءه، وأدام خلافته- في شعبان سنة تسعٍ وخمسين وثلاث مائةٍ»؛ وعليها تعاليق كثيرةٌ.
* كتب الزهد:
حوت خزانة المستنصر بالله كتبًا في الزهد، وقد نصَّ على ذلك في تعليقةٍ له على ترجمة عبد العزيز بن الحُسين بن سليمان الزجَّاج، جاء فيها: «كانت عنده كتبٌ في الزهد، وقد كتب لي هذه الكتبَ بخطِّه»، ثم ذَكَر من كتب الزهد التي نسخها له الزجَّاج: كتاب: «النجاة إلى الطريق» للإمام العابد الحافظ الحُجَّة، مفتي الشام، محمد بن المبارك بن يعلى القرشيِّ الصُّوريِّ (ت: 215هـ)؛ قال الحكم المستنصر بالله: «كَتَبَ لي هذا الكتابَ بخطِّهِ».
* كتب اللغة وعلومها، ومنها:
1 - كتاب: «العين» للإمام صاحب العربيَّة، الخليل بن أحمد الفراهيديِّ؛ قال الأديب عليُّ بن محمد بن أبي الحسين الأندلسيُّ: «وجدتُ بخطِّ أبي قال: أمرنا الحكم المستنصر بالله بمقابلة كتاب: «العين» للخليل بن أحمد؛ مع أبي عليٍّ إسماعيل بن القاسم البغداديِّ».
2 - كتاب: «الاستدراك على كتاب العين» لإمام النحو المؤرِّخ، محمد بن الحسن الزبيديِّ الشاميِّ ثم الأندلسيِّ؛ أمره المستنصر بالله بتأليفه؛ قال الزبيديُّ في مقدِّمة كتابه: «هذا كتابٌ أَمَرَ بجمعه وتأليفه أمير المؤمنين الحكم المستنصر بالله -أطال الله بقاءه- عنايةً منه بالعلم وتهيُّمًا به».
3 - كتاب: «العالم» للعالم اللغويِّ أحمد بن أبان بن سيِّد الأندلسيِّ؛ نحو مائة مجلَّدٍ، مرتَّبٌ على الأجناس، في غاية الاستيعاب؛ بدأ بالفلك، وختم بالذرَّة.
4 - كتاب: «البارع في اللغة» للعلَّامة اللغويِّ أبي عليٍّ إسماعيل القاليِّ البغداديِّ؛ كلَّف المستنصر بالله خبيرين في النحو واللغة، وهما: محمد بن الحسين الفهريُّ القرطبيُّ -وهو ورَّاق أبي عليٍّ القالي-، ومحمد بن معمر الجيانيُّ -مُستملي أبي عليٍّ القالي- بتدقيق وتهذيب ما لم يُهذِّبْه أبو عليٍّ إسماعيل القالي من كتابه: «البارع في اللغة»؛ فاستخرجاه من أصوله التي بخطِّ أبي عليٍّ القالي وخطِّهما، مما كان قد كتباه بين يديه؛ وصحَّحَا من كتاب: «البارع»، كتابَ الهمزة، وكتابَ العين؛ فلمَّا كمل الكتاب رفعاه إلى الآمر به الحكم المستنصر بالله، وطلب منهما أن يوقفاه على ما فيه من الزيادة، على النُسخة المجتمع عليها من كتاب: «العين» للخليل؛ فبلغ ذلك ثلاثًا وثمانين وستمائةٍ وخمسة آلاف كلمةٍ.
* كتب التاريخ والتراجم:
إنَّ ما حازت عليه خزانة المستنصر بالله من كتب التاريخ والتراجم، كان مضرب المثل لدى العلماء والأعيان، ومن الشواهد على ذلك: أنَّ المؤرِّخ ابن السكَّاك (ت: 818هـ)، عندما ذَكَر ما لدى العلَّامة ابن الخطيب محمد بن عبد الله الأندلسيِّ (ت: 776هـ)، من كتب التواريخ والتراجم، قارن ذلك بضخامة ما لدى المستنصر بالله منها؛ يقول ابن السكَّاك: «ابن الخطيب دخل بيده من كتب التواريخ والتراجم، وطالع منها ما لا يمكن أن يدخل إلا بيد ملك شامخٍ، كالحكم المستنصر في زمانه».
ومن كتب التاريخ والتراجم التي كانت في خزانة المستنصر بالله:
1 - كتاب: «أيام العرب»؛ وهي ألفٌ وسبعمائة يومٍ، للعلَّامة الأخباريِّ أبي الفرج عليِّ بن الحسين الأصبهانيِّ القرشيِّ الأُمويِّ؛ وقد ألَّفه للمستنصر بالله.
2 - كتاب: «التعديل والانتصاف»؛ في مآثر العرب ومثالبها، للعلَّامة الأخباريِّ أبي الفرج عليِّ بن الحسين الأصبهانيِّ القرشيِّ الأُمويِّ؛ وقد ألَّفه للمستنصر بالله.
3 - كتاب: «أخبار شعراء إلبيرة» للمؤرِّخ المُحدِّث اللغويِّ، مطرف بن عيسى الغسانيِّ الغرناطيِّ؛ في نحو عشرة أسفارٍ؛ جُمِعَ للمستنصر بالله.
4 - كتاب: «طبقات الفقهاء المالكية» للإمام الحافظ محمد بن الحارث بن أسد الخشنيِّ الأندلسيِّ؛ وقد ألَّفَه للمستنصر بالله.
5 - كتاب: «تاريخ الإفريقيين» للإمام الحافظ محمد بن الحارث بن أسد الخشنيِّ الأندلسيِّ؛ وقد ألَّفه للمستنصر بالله.
6 - كتاب: «تاريخ علماء الأندلس» للإمام الحافظ محمد بن الحارث بن أسد الخشنيِّ الأندلسيِّ؛ وقد ألَّفَه للمستنصر بالله.
7 - كتاب: «طبقات النحويين واللُّغويين» لإمام النحو المؤرِّخ محمد بن الحسن الزبيديِّ الشاميِّ ثم الأندلسيِّ؛ أمر المستنصرُ بالله المؤلِّفَ بتأليفه.
* كتب الأدب، ومنها:
1 - كتاب: «الكامل» لإمام النحو العلَّامة الأخباريِّ، محمد بن يزيد الأزديِّ، المعروف بالمبرّد؛ اشتراها المستنصر بالله من محمدِ بن عِلاقةَ القرطبيِّ؛ وهي نُسخةٌ نفيسةٌ سمعها ابن عِلاقة من الأخفش، ثم صار أصلُه منه إلى المستنصر بالله، واحتفل بها غاية الاحتفال.
2 - كتاب: «الأغاني» للعلَّامة الأخباريِّ أبي الفرج عليِّ بن الحسين الأصبهانيِّ القرشيِّ الأُمويِّ؛ وقد أورد قصةَ وصولِ هذا الكتاب إلى خزانة المستنصر بالله، الحافظُ ابن خيرٍ الإشبيليُّ؛ حيث ذَكَر أنّ المستنصر بالله بعث إلى أبي الفرج الأصبهانيِّ بألف دينارٍ عينًا ذهبًا، يلتمس منه النُّسخة الأولى من كتابه الذي ألَّفَه في «الأغاني»، وما لأحدٍ مثله، فأرسل إليه منه نُسخةً حسنةً منقَّحةً، قبل أن يظهر الكتاب لأهل العراق، أو ينسخه أحدٌ منهم.
3 - كتاب: «الأمالي»، ويُعرَف بـ «النوادر» للعلَّامة اللغويِّ أبي عليِّ إسماعيل القالي البغداديِّ؛ ألَّفَه للمستنصر بالله أيَّام كان وليًّا للعهد؛ قال المؤرِّخ أحمد بن المقري: «وباسم أمير المؤمنين الحكم المستنصر بالله، طَرَّزَ الشيخ أبو عليٍّ القالي كتاب: «الأمالي»».
4- كتاب: «الحدائق والجنان من أشعار أهل الأندلس وديوان بني فرجٍ شعراء جيان» للأديب الشاعر الأخباريِّ، أحمد بن محمد بن فرجٍ الجيانيِّ الأندلسيِّ (ت: حدود360هـ)؛ ألَّفه للمستنصر بالله.
5 - كتاب: «إصلاح الخُلُق» للأديب الشاعر عبد الملك بن عمر بن محمد القرطبيِّ؛ وهو في الآداب والوصايا؛ ألَّفه للمستنصر بالله أيَّام كان وليًّا للعهد.
* كتب الفلسفة:
وكان هذا الجانب في الخزانة يشكِّل عددًا كبيرًا؛ حتى كان يُضرب المثل به في كثرته، فمن ذلك: أنّ المؤرِّخ عبد الواحد المراكشيُّ، قارن ما لدى سلطان المغرب يوسف بن عبد المؤمن، من كتب الفلسفة، بضخامة ما لدى المستنصر بالله منها؛ حيث يقول: «يوسف بن عبد المؤمن، تعلَّم الفلسفة؛ فجمع كثيرًا من أجزائها، وبدأ من ذلك بعلم الطبِّ، فاستظهر من الكتاب المعروف بالملكيِّ أكثره، مما يتعلَّق بالعلم خاصَّةً دون العمل، ثم تخطَّى ذلك إلى ما هو أشرف منه من أنواع الفلسفة، وأمر بجمع كتبها؛ فاجتمع له منها قريبٌ ممَّا اجتمع للحكم المستنصر بالله الأُمويِّ».
وقد أحرق هذه الكتبَ حاجبُ الممالك الأندلسية: المنصورُ محمدُ بن عبد الله بن أبي عامرٍ القحطانيُّ القرطبيُّ، بعد وفاة أمير المؤمنين المستنصر بالله.
* كتب الحيوان، ومنها:
كتاب: «الطير» ليوسف بن هارون الكنديِّ، المعروف بالرماديِّ؛ شاعرٌ قرطبيٌّ مشهورٌ عند العامَّة والخاصَّة، مدح الحكم المستنصر بالله، وعمل في السجن كتابًا سمَّاه: «كتاب الطير»، في أجزاء، وكلُّه من شعره؛ وصف فيه كلَّ طائرٍ معروفٍ، وذَكَر خواصَّهُ، وذيَّل كلَّ قطعةٍ بمدح وليِّ العهد الأمير هشام بن الحكم، مستشفعًا به إلى أبيه في إطلاقه، وهو كتابٌ مليحٌ سُبق إليه.
* كتب الفلك، ومنها:
كتاب: «تفصيل الأزمان ومصالح الأبدان» لربيع بن زيدٍ الأسقف الفيلسوف القرطبيِّ؛ وفيه من ذِكْر منازل القمر، وما يتعلَّق بذلك، ما يُستحسن مقصده وتقريبه؛ وقد ألَّفه للمستنصر بالله.
مآل خزانة العلوم:
لمَّا تُوُفِّيَ أمير المؤمنين المستنصر بالله في قصره بقرطبة، في الثاني من صفر سنة 366هـ/976م، تولَّى ابنه المؤيَّد بالله المُلك -وهو صغير السنِّ لم يحتلم- فتغلَّب على تدبير ملكه بالأندلس حاجبُه: المنصورُ محمدُ بن عبد الله بن أبي عامرٍ محمد بن وليدٍ القحطانيُّ القرطبيُّ (ت: 393هـ)، وعَمَدَ إلى خزائن أبيه الحكم المستنصر بالله، الجامعة للكتب وغيرها، فأبرز ما فيها من ضروب التواليف، وأمرهم بإخراج ما في جملتها من كتب العلوم القديمة، فلمَّا تميَّزت كتب الفلسفة والنجوم والديانات، من سائر الكتب المؤلَّفة في اللُّغة والنحو والأشعار والأخبار والطبِّ والفقه والحديث، وغير ذلك من العلوم المباحة بمذاهب الأندلس، إلَّا ما أفلت منها في أثناء الكتب، وذلك أقلُّها؛ أمر الحاجبُ المنصورُ بإحراقها وإفسادها؛ فأُحرق بعضُها، وطُرح بعضُها في آبار القصر، وهِيلَ عليها التراب والحجارة؛ وفعل ذلك تحبُّبًا إلى عوامِّ الأندلس، وتقبيحًا لمذهب الخليفة الحكم المستنصر بالله عندهم؛ إذ كانت تلك العلوم مهجورةً عند أسلافهم، مذمومةً بألسنة رؤسائهم، وكان كلُّ من قرأها متَّهمًا عندهم بالخروج من المِلَّة، مظنونًا به الإلحاد في الشريعة.
وظلَّت خزانة المستنصر بالله قائمةً في قصره إلى سنة 400هـ، وهي السنة التي حاصر فيها البربر مدينة قرطبة؛ فبيع أكثرها إبَّان الحصار الذي امتدَّ إلى سنة 403هـ؛ حيث أمر ببيعها حاجبُ أمير المؤمنين المؤيَّد بالله: المنصورُ محمدُ؛ ولعلَّ شدَّة الحصار أنزلت بهم الحاجة إلى بيعها.
ثم حلَّت الفجيعة بما بقي من خزانة المستنصر بالله، لمَّا دخلها البربر بالسيف سنة 403هـ، وقتلوا فيها الأطفال، وحرَّقوا الأرباض، وهرب منها من نجا؛ فبيعت يومئذٍ كُتب المستنصر بالله، ونُهِبَ الكثير منها، وتفرقت وتبعثرت بعد أن تبوَّأت هذه الخزانة مكانتها السامقة عدة عقود من الزمان، وكانت محطَّ أنظار العلماء والباحثين والمستفيدين من الأقطار والأمصار، وحصل بذلك الفاجعة العظمى، التي أُصيب بها صعيد العلم والمعرفة؛ حيث لم يبقَ من الأربعمائة ألف مجلَّدٍ التي في تلك الخزانة إلا كتابٌ واحد، وهو كتاب مختصر الإمام أبي مصعبٍ أحمد الزهري (ت: 242هـ)، في الفقه المالكي، الذي نسخه حسينُ بن يوسف -عبدُ أمير المؤمنين المستنصر بالله- سنة 359هـ.
خاتمة:
لا يَحسُن بنا أن نختم هذا التطواف بالتباكي على ما آلت إليه تلك الخزانة الضخمة؛ ذلك أمرٌ قد قُضِيَ، وحدَثٌ تاريخيٌّ متوقَّعٌ، خاصَّةً في تلك العصور؛ لكنَّنا نتساءل: كيف استطاع رجلٌ كالمستنصر بالله أن يجمع بين كونه زعيمًا سياسيًّا، وعالمًا مُكِبًّا على الدرس؟ وبين كونه ملكًا فاحش الثراء، وعابدًا متزهِّدًا؟
لا شكَّ أنَّ الجمع بين هذه الأمور غايةٌ في الصعوبةِ عادةً؛ لِمَا هو معلومٌ من أنّ المُلك لا يُعين على الرغبة في العلم والإقبال على العبادة، وهذا ما يُشير إلى وجود أسرارٍ عميقةٍ في الإعداد النفسي لهذه الشخصية، التي تحتاجُ إلى درسٍ جادٍّ لنظام حياتها، والبحث عن التفاصيلِ الغائبةِ منها.
ونحن نزعم أنَّ مثل هذه الدراسة ستكون إضافةً مُهمَّةً جدًّا، للبرامج والبحوث التربويَّة، ونرجو أن نجد في المظانِّ التاريخيَّة والأدبيَّة ما يُعِينُ على هذه المُهمَّة، ونسأله أن يُمِدَّ في الأعمار، ويبارك في الأوقات والصحَّة، وأن يستعملنا لما فيه رِضاه، وأن ينفع بنا الإسلام والمسلمين.
** **
- إبراهيم بن منصور الهاشمي الأمير