أ.د.عثمان بن صالح العامر
كنا في نقاش طويل مع عدد من الزملاء الأعزاء، المثقفين بامتياز، حيال الهوية التي تتميز بها حائل، والتي تنضوي تحت ضلال الهوية الوطنية أجمع. حينها قلت: (ما إن أُعرّفُ بنفسي لأناس يسمعون عن حائل ولم يزوروها من قبل داخل المملكة وخارجها حتى يقولوا (أوه.. بلد الكرم) وربما ذكروا تبعاً وتأكيداً لما وصفوها به (إنها بلد حاتم)، فالشخصية الحائلية في الذهنية السعودية، بل الخليجية وربما العربية (شخصية كريمة)، وهم محقون في ذلك، فالكرم والجود والسخاء بالمال والنفس والجاه والوقت بصمة للحائليين بامتياز، مع عدم التقليل من شأن الكرم لدى غيرهم أو الانتقاص من قدر الآخرين أفراداً وجماعات، ففي كل خير، ولك مجتمع سجاياه وصفاته التي يمتدح بها.
وتولد عن هذه السجية - التي امتدحها الله عزَّ وجلَّ وأثنى عليها رسوله صلى الله عليه وسلم، وافتخر بها أهل الجود والبذل في الجاهلية قبل الإسلام معتبرين إياها صورة من صور السيادة والقوة - سجايا وطبائع أخرى منها على سبيل المثال النخوة والشجاعة والعفو والتسامح وسعة الصدر وبذل الذات رخيصة في المواقف والأحداث الصعبة وحسن القول، وجميل الفعال، إذ إنها جميعاً تعود إلى الكرم بالنفس الذي يعد أعلى درجات هذه السجية المتميزة في الشخصية البشرية.
يذكر المؤرِّخ السوداني (عبد العزيز عبد الغني) أن «حائل على مدار التاريخ حتى وقتنا المعاصر امتازت بالسماحة والكرم، أثبت ذلك الرحالة في كتبهم ومذكراتهم التي نشروها إبان حياتهم، حيث أشاروا جميعاً بلا استثناء إلى أن الحائليين كانوا متسامحين مع أي زائر سواء من الحجاج المارين أو الرحالة المستشرقين، فهم يقبلون الغريب ويسمحون له بممارسة عاداته وتقاليده التي يمارسها في حياته الطبيعية، فضلاً عن أنهم كانوا يستقبلون الحجيج الذين يمرون بديارهم على اختلاف طوائفهم ومدارسهم الفكرية أحسن استقبال، يؤتى لهم بالطعام مجاناً، وعندما يهمون بالرحيل يحمّلونهم التمر وغيره من الزاد دون النظر لهوياتهم أو أجناسهم أو من أي البلاد جاءوا أو ما المدرسة الدينية التي يتبعونها، ومن دون أن يسألوهم عمَّا هي طائفتهم ومذهبهم العقدي أو الفقهي الذين يدينون به.
والكرم الحائلي ليس حكراً على أهالي حائل، بل تطبع بطبعهم وسلك سبيلهم جلّ من عاش بين ظهرانيهم ردحاً من الزمن حتى ولو لم يكن عربياً، كما أن الكرم الحائلي ليس جديداً ولا طارئاً في تاريخ إنسان المنطقة، بل هو ميراث ورثته الأجيال جيلاً إثر جيل وصولاً لحاتم الطائي الذي انتهى إليه الكرم في التاريخ العربي كما هو معلوم. ولعل مما نقل لنا من شعره توسيعه دائرة الكرم من الجود بالأكل والشرب والمال إلى طلاقة الوجه وحسن الاستقبال وإشعار الضيف بأنه صاحب الدار، إذ يقول في هذا:
«أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله
ويخصب عندي والمحل جديب
وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى
ولكنما وجه الكريم خصيب»
وقد جاء فيما كتبه الرحالة عن المواقف التي مرت عليهم أثناء إقامتهم في حائل ما يجلي هذه السجية والقيمة الأخلاقية العالية، فـ(بلغريف) مثلاً يصف كرم الضيافة في حائل ويصور للقارئ اتساع قدورهم وطيب طعامهم، و(هوبر) يحكي زيارته لعقده فيقول: «اضطررت إلى دخول تسعة عشر منزلاً أو خيمة، حيث قدمت لي القهوة وطبقاً كبيراً من البطيخ أو الشمام المقطع مكعبات.. وأقول اضطررت إذ إن أحدهم ما إن يلمحني سائراً حتى يأخذ مطيتي من الرسن ويقودني إلى بيته متجاهلاً ملاحظاتي».
وتحدثت (الليدي آن بلنت) عن ضيافة أهالي جبة لها حين زارتها مشيرة إلى أن القهاوي مفتوحة للضيوف طوال النهار، وأنها لقيت الترحيب من الجميع. فأهلا بكم في حائل ففيها جمال الطبيعة، ونقاء الجو ودفء المكان وقبل هذا وذاك روعة إنسانها وكرمه الجبلي الفطري الذي هو عنوان لها وسجية عند أهلها، دمتم بخير، وإلى لقاء، والسلام.