«الجزيرة» - د. عبيد الشحادة:
خالفت ما سبقها من الأسماء والمسميات، وخلّفت وراءها روتينية المفاهيم والخطط والأهداف وأنماط المراحل الزمنية خمسيّها وعشريّها.. هي قفزة على كل ما سبق بكل ما تعنيه دلالة الطموح إلى أقصى حدود الحلم.. إنها رؤية المملكة 2030 التي بلورت فلسفة التخطيط والتفكير الاستراتيجي بصيغة غايرت المألوف من نمطية ارتباط الأهداف بمراحلها إلى اختصار الزمن في مسيرة شهدت تزاحماً وتسابقاً في الطموحات والإنجازات، حتى ضاقت بها كل معايير القياس المعهودة في التوصيف لتنفرد بمعيارها الأوحد، وهو شغف التحدي.
كانت البداية يوم 25 أبريل من عام 2016م حين انطلقت رؤية السعودية 2030 بدعم ورعاية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- وتخطيط ومتابعة صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز ولي العهد رئيس مجلس الوزراء - أيده الله - مهندس الرؤية الملهم وصاحب البصمة المتفردة الذي وضع على عاتقه تغيير مستقبل المملكة في شتى المجالات، راسماً خارطة طريق تعزز نقاط قوة المملكة من موقع استراتيجي وقوة استثمارية ومركز محوري في العالمين العربي والإسلامي.
لقد بنيت رؤية السعودية 2030 على أسس قوية تكفل نجاحها، فبدأت بتنفيذ إصلاحات غير مسبوقة، شملت القطاع العام وجميع النواحي الاقتصادية والاجتماعية. وعلى الرغم من التحديات، ازدادت العزيمة على تحقيق الأهداف. وأصبحت الأعمال الحكومية أكثر كفاءة فانبثقت فرص استثمارية جديدة، بالإضافة إلى زيادة مشاركات المملكة العالمية، وتحسين جودة حياة السكان، وتمكين المواطنين والشركات للوصول إلى الاستفادة المثلى من إمكاناتهم. إضافة إلى تنويع الاقتصاد، ودعم المحتوى المحلي، وخلق فرص نمو مبتكرة؛ تعززها بيئة داعمة للاستثمارات المحلية والأجنبية، بالتزامن مع فتح صندوق الاستثمارات العامة قطاعات جديدة، تسهم في النمو الاقتصادي للمملكة.
انطلقت مسيرة الرؤية عبر أحد عشر برنامجاً مختصرة الزمن ومتجاوزة تحقيق أهدافها بمراحل، وهي ما تزال في منتصف خطها الزمني، معلنة عن عدد كبير من الإنجازات والإصلاحات في أكبر تحول وطني تشهده المملكة لبناء مستقبل البلاد وتحفيز النمو الاقتصادي المتسارع والمستدام، فحققت على الصعيد المحلي نتائج مبهرة في شتى الاتجاهات. وتشير تقارير رؤية المملكة إلى تحقيق إنجازات لافتة في المؤشرات والقطاعات كافة، بداية من رفع رساميل الاستثمارات الأجنبية إلى رفع معدلات التوظيف وعمل المرأة وتقدم ترتيب المملكة في المؤشرات الاقتصادية، مروراً بتحقيق وفورات مليارية من المبادرات الحكومية الرقمية، وبحسب التقرير السنوي لرؤية السعودية 2030، حققت المملكة وفورات بلغت 4.5 مليار ريال من المبادرات الحكومية الرقمية. وتأتي هذه الوفورات مدعومة بتوافر ستة آلاف خدمة إلكترونية تقدم 97 في المائة من الخدمات الحكومية في المملكة إلكترونياً.
وانعكست نتائج نجاحات الرؤية في جوانب عديدة منها على حياة المواطن، فجاء توفير الرعاية الصحية في مقدمتها، حيث ارتفع متوسط العمر المتوقع في المملكة من 74.8 إلى 75.3 عاماً، فيما انخفض عدد الوفيات الناتجة عن الحوادث المرورية بنسبة 55% جراء الجهود الكبيرة التي بذلتها المملكة في إنشاء وتطوير شبكة الطرق وصيانتها ودعم ذلك بالأنظمة المرورية والرصد الآلي للمخالفات. كما لعبت مبادرات جودة الحياة والفعاليات الترفيهية دوراً مهماً في تحسين الصحة النفسية نحو الأفضل، فاحتلت المملكة المرتبة الثالثة بين الدول العربية لمؤشر السعادة في تقرير السعادة العالمي لعام 2022. إضافة إلى استمرار تصاعد وتيرة نسبة تملك المواطنين للمساكن من 47% في عام 2016 إلى ما يزيد عن 60% وصولاً إلى المستهدف النهائي وهو نسبة 70% في عام 2030.
ويشغل تمكين المرأة السعودية حيزاً واسعاً من نجاحات مستهدفات الرؤية، حيث جاءت المملكة ضمن أفضل ثلاث دول تحسناً على مستوى العالم في سد الفجوة بين الجنسين. فقد حققت المملكة 80 نقطة من أصل 100 في مجموع مؤشرات تقرير البنك الدولي لعام 2022؛ وذلك بزيادة 10 نقاط عن عام 2020. وارتفعت نسبة مشاركة المرأة السعودية في سوق العمل من 19.4% إلى 35.6% بين عامي 2016 و2021، ووصلت نسبتهن في المناصب الإدارية إلى 41.1% بنهاية 2022، فيما مثلت مشاركة السعوديات 45% من إجمالي العاملين في قطاع المنشآت الصغيرة والمتوسطة.
وانطلاقاً من مكانتها كمصدر للطاقة فقد أطلقت المملكة العديد من المبادرات لإنتاج الطاقة النظيفة والمستدامة، وقادت جهوداً إقليمية ودولية للوصول إلى معادلة الحياد الصفري تجاه كوكب الأرض في ظل التغيرات المناخية العالمية. ودعمت هذا المسار بمبادرة السعودية الخضراء والشرق الأوسط الأخضر تزامناً مع جهود الحد من ظاهرة التصحر ومنع الاحتطاب والحفاظ على الغطاء النباتي وزيادته والعمل على الاستغلال الأمثل لموارد الطبيعة وتطويرها، ودعم الممارسات الصديقة للبيئة. وتتوجت هذه الجهود بإنشاء المحميات الملكية في مناطق متفرقة من أراضي المملكة لحماية الحياة الفطرية وتعزيز السياحة البيئية وتوفير فرص العمل، والمساهمة في حماية 30% من المناطق البرية والبحرية في عام 2030. ومن أبرز تلك المحميات محمية الملك سلمان بن عبدالعزيز الملكية التي تعد أكبر محمية في الشرق الأوسط.
وعلى صعيد الصورة الخارجية للمملكة، أسهمت رؤية السعودية 2030 في تعزيز مكانة المملكة على الساحة العالمية كإحدى أكثر الدول تسارعاً في النمو والتنافسية بين مجموعة العشرين. ففي إنجاز تاريخي حققت المملكة المركز الثاني عالميّاً في الدول الأكثر نموّاً في قطاع السياحة، حيث استقبلت المملكة حوالي 7.8 ملايين سائح دولي لجميع الأغراض خلال الربع الأول من عام 2023، الذي يمثل أعلى أداء ربعي تاريخيّاً لتحقق نموّاٍ بنسبة 64% مقارنة بنفس المدة من عام 2019، وبذلك حققت المملكة المركز الثاني بين قائمة الدول الأكثر نموّاً على مستوى العالم خلال تلك الفترة. كما حققت المملكة تميزاً عالمياً جديداً، بتقدمها في بيانات مؤشر نضج الحكومة الرقمية لعام 2022 الصادرة عن مجموعة البنك الدولي، إلى المرتبة ( الثالثة ) عالمياً، من بين ( 198) دولة، و (الأولى) إقليمياً. فيما حققت المملكة مراكز متقدمة لتدخل قائمة Top 10 في مؤشر الابتكار العالمي 2022، الصادر عن المنظمة العالمية للملكية الفكرية (WIPO) وحلت في مراتب الصدارة في مؤشر استثمار رأس المال الجريء في شركات التقنية الناشئة، الذي حلت فيه المملكة في المرتبة السابعة عالمياً متقدمة 73 مركزاً، ومؤشر البيئة التنظيمية لممارسة الأعمال، ومؤشر استخدام البنى التحتية للاتصالات وتقنية المعلومات.
كأس العالم 2034
إلى ذلك اتجهت رؤية السعودية 2030 بقوتها الناعمة واستراتيجيتها الملهمة لتقتحم مراكز صناعة الفعاليات والأحداث العالمية الكبرى، فحققت بشكل متزامن أهم انتصارين أُعلن عن الفوز بهما خلال شهر واحد، وهما: كأس العالم 2034 وإكسبو 2030. وذلك نتيجة جهود ماراثونية واستعدادات مبكرة قدمت ملفات الترشح المدروسة بعناية للوصول إلى النتائج الكبيرة المستحقة. فعلى الصعيد الرياضي بدأت المملكة خطوات تطوير مهمة غيرت مفاهيم كرة القدم نحو بناء قطاع رياضي فعال من خلال مشاريع الاستثمار وتخصيص الأندية الرياضية واستقطاب كبار نجوم العالم في كرة القدم إلى الأندية السعودية. حيث أصبح الدوري السعودي محط أنظار العالم، وبات واحداً من أقوى دوريات العالم يتابعه عشاق كرة القدم في شتى القارات، وباتت القنوات الفضائية العالمية تتسابق نحو نقل مباريات الدوري السعودي. وفي نهاية أكتوبر الماضي أصبحت المملكة على بعد خطوات من استضافة كأس العالم 2034 بدعم مهندس الرؤية الملهم صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء وملف ترشح محوكم وتأييد عالمي غير مسبوق. حيث حظي الملف السعودي بثقة العالم، بعدما دعمه 125 اتحاداً كرويّاً من مختلف أنحاء العالم؛ في تأييد غير مسبوق على مستوى طلبات الترشح في تاريخ المسابقة. وجاء نجاح المملكة في جعل ملفها الأوفر حظاً، وما حظيت به من تأييد تاريخي تتويجاً لما يحظى به القطاع الرياضي بدعم كبير من القيادة واهتمام خاص من سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، حيث منح دعمه واهتمامه ملف الترشح ثقة الاتحادات الإقليمية والدولية بالملف. إلى جانب الإدارة المتميزة والعلاقات الإيجابية التي تتمتع بها المملكة مع دول العالم، وتنسيقها المبكر مع الدول المعنية، إضافة إلى نجاحات التحول الكبير في المملكة والإنجازات الكبيرة التي حققتها رؤية السعودية 2030 ما عزز فرص المملكة في الفوز ومنحها الريادة في مختلف الرياضات والمنافسات العالمية، حتى أصبحت اليوم موطن الأحداث الرياضية الكبرى. يذكر أن المملكة نجحت في استضافة أكثر من 50 حدث رياضي دولي منذ عام 2018 في مختلف الرياضات مثل كرة القدم ورياضة المحركات والجولف والرياضات الالكترونية والتنس والفروسية وغيرها، كرست من خلالها مكانتها كأحد أبرز الوجهات الرياضية العالمية.
إكسبو 2030
من جانب آخر شكل فوز المملكة بتنظيم معرض إكسبو 2030 حدثاً بارزاً كأحد إنجازات رؤية السعودية 2030، حين تفوقت على عدد من الدول المترشحة لاستضافة التنظيم بحصولها على 119 صوتاً في الاقتراع الإلكتروني السري للدول الأعضاء الـ180 بالمكتب الدولي للمعارض خلال اجتماع جمعيته العمومية في دورتها الـ173. وبينت الأرقام التي قدمها الوفد السعودي الأهمية الاستثنائية التي توليها المملكة للمعرض الذي تقيمه تحت شعار «معاً نستشرف المستقبل»، مخصصة له ميزانية تفوق 27 مليار ريال. وتعتزم المملكة من خلال استضافة المعرض على مساحة ستة ملايين متر مربع شمال العاصمة، العمل من أجل تعزيز قدرة دول العالم على تغيير مسار الكوكب نحو مستقبل أفضل، وتقديم تجربة عالمية استثنائية في تاريخ معارض «إكسبو»، عبر مخطَّط رئيسي طموح سيقام بالقرب من مطار الملك سلمان الدولي الجاري تطويره حالياً ما يسهّل على الزوار القادمين عبر المطار الوصول إلى موقع المعرض. وقد تم تصميم أجنحة المعرض المقدر عددها بـ226 جناحاً ضمن تصميم يشبه الكرة الأرضية، ويتوسطها خط الاستواء في توجه يضمن فرصاً متساوية لجميع المشاركين في المعرض. وسيتم تحديد مواقع أجنحة الدول في المعرض بطريقة مرنة وفقاً لخطوط الطول لكل دولة، وذلك في ترتيب يجمع دولاً من شمال الكرة الأرضية وجنوبها، في خطوة ترمز إلى الدور المهم الذي تلعبه المملكة في تسهيل التعاون بين دول العالم. ومن المتوقع أن يجتذب المعرض ملايين الزوار من شتى أنحاء العالم إلى جانب الزوار المحليين، ما يسهم في ازدهار ونمو عدة قطاعات اقتصادية وحيوية، مثل الطيران والنقل والاتصالات والتجزئة والفنادق والضيافة والسياحة والمطاعم. كما سيكون المعرض فرصة كبيرة للشركات المحلية لجذب الاستثمارات الأجنبية. كما أنه سيخلق مئات الآلاف من فرص الوظائف، إلى جانب انعكاس مكانة المملكة على المستوى العالمي، وثقة دول العالم في قدرتها على تنظيم الأحداث والفعاليات الكبرى.