عبدالوهاب الفايز
بعد تكشف الفرق بين اليهودية والصهيونية وافتضاح حقيقة إسرائيل، علينا استثمار الفرص لعودة القضية الفلسطينية إلى الاهتمام العالمي. والأقوى لهذه العودة أن تتم عبر مشروع سلام جديد.
المشروع الذي يدعو له نخبة من المفكرين السياسيين اليهود، غير المحسوبين على المشروع الصهيوني، هو أن تتم مواجهة إسرائيل بمشروع سلام جديد يقوم على مبدأ (عدم استخدام السلاح والعنف)، فهذا المشروع هو الذي سوف يهزم إسرائيل. وتبني اليهود لهذا المشروع يعطيه الدفعة المعنوية والشرعية السياسية القوية أمام المجتمع الدولي. فإذا أمريكا وإسرائيل لم تقبلا بمشاريع السلام التي طرحتها الدول العربية، فالآن أمامها: المشروع اليهودي للسلام.
هذه الفكرة - ربما غير الواقعية والحالمة - قد تُحدث انفراجاً ينقذ المنطقة من احتمالات انفجار الموقف وتوسع دائرة الحروب. إنها وليدة ما يطرحه ويؤمن به كبار المفكرين والسياسيين والقيادات الدينية من اليهود الذين يعارضون المشروع الصهيوني اليهودي، ويعارضون قيام إسرائيل.
هم يرون أن إسرائيل لن تهزم عسكرياً في ظل الدعم العسكري الأمريكي الغربي غير المحدود، والذي رأينا بوادره في الأيام الأولى لأحداث غزة فقد حرّكت أمريكا أساطيلها وجهزت قوتها النووية، وألمانيا وبريطانيا وفرنسا أرسلت المساعدات العسكرية العاجلة، وتصدت أمريكا للمجتمع الدولي وأبطلت قرارات مجلس الأمن، وصوتت ضد رغبة المجتمع الدولي في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وغطرسة القوة هذه هي التي تجعل مجرم الحرب نتانياهو يواصل الإبادة الجماعية مدعوماً بالترسانة العسكرية الأمريكية.
وهذا الموقف الأمريكي الغربي الصارم يؤكد أن فلسطين لن تتحرر بالقوة العسكرية. في ظل هذه الحقيقة يرى أغلب اليهود المستقلين أن إجبار إسرائيل على إنهاء الاحتلال والقبول بحل الدولتين يتحقق عبر الإرادة الدولية، كما حدث مع جنوب إفريقيا. فإرادة المجتمع الدولي، عبر المقاطعة والعقوبات، أنهت نظام الفصل العنصري. أيضاً هذا المشروع يمنع إسرائيل من استخدام ورقة حقوق الإنسان، فإسرائيل تقدم نفسها على أنها (دولة ديمقراطية) وجزء من الغرب الذي يحترم حقوق الإنسان، يتجاوب مع أكاذيب إسرائيل في استخدام هذه الورقة الحقوقية.
طبعاً هذه الحجة تسقط الآن، فالعالم يرى في غزة جرائم حرب وإبادة جماعية، ويشاهد ازدواج للمعايير، ونفاقاً سياسياً أمريكياً غربياً. هذا سوف يدفع بالرأي العام العالمي ليكون طرفاً قوياً رئيسياً في المواجهة لفرض السلام، خصوصاً الأجيال الجديدة من اليهود الذين يكتشفون أن إسرائيل لا تمثلهم، فالمشروع الصهيوني يستخدم مآسي اليهود في أوروبا كسلاح في صراعاته ومصالحه. هذا الجيل بدأت تصله الحقائق المغيَّبة عن تاريخ اليهود المؤلم في أوروبا، ويكتشفون أن المسيحيين، بالذات الإنجيليين في أمريكا، يدعمون إسرائيل حتى تجمع اليهود في فلسطين.
والأهم أن النسبة الكبرى للأجيال اليهودية الجديدة، حسب الدكتور عبد الوهاب المسيري، تنتقل من خصوصيتها اليهودية بالذات اليديشية، إلى فضاء العلمانية الشاملة في الغرب وعصر العقل والاستنارة، فالفكر العلماني والعقلاني ينظر إلى الكون في إطار فكرة القانون العام والطبيعة البشرية العامة والإنسان الطبيعي. ويرى المسيري أن عدم وجود خصوصية يهودية عالمية وأية معايير دينية أو إثنية عامة تحدد الهوية اليهودية، هذه الحال جعلت أعضاء الجماعات اليهودية فريسة سهلة للعلمانية الشاملة.
ويلاحظ أن أعضاء الجمعيات اليهودية كانوا قد تشربوا قدراً كبيراً من الثقافة المحيطة بهم بوعي أو دون وعي، ولذلك لم يكن من الصعب عليهم إنجاز عملية التخلص من أية علامات على الخصوصية، فظهرت بين اليهود حركات إصلاح ديني وتنوير أسهمت في تخليص اليهود من أية خصوصية دينية أو غير دينية.
ويقدم المسيري دليلاً على الاختفاء السريع لما يسمى بالإثنية اليهودية مما حدث للكتلة البشرية الشرق أوروبية الضخمة من يهود اليديشية، فقد اختفت اللغة أو اللهجة اليديشية، أهم مظاهر هذه الخصوصية، بسرعة غير عادية ولم يعد هناك سوى بضعة أفراد يتحدثونها. ويرى المسيري أن هذه أدت إلى ولادة ما يعرف بـ(اليهود الجدد)، أي يهود ما بعد عصر الانعتاق، وهؤلاء خضعوا مثل غيرهم إلى عملية ضخمة من العلمنة والتحديث، ووجدوا أنفسهم يتفاعلون مع بيئة حضارية وسياسية مختلفة تماماً عما ألفوه من قبل. (انظر: عبد الوهاب المسيري، من هم اليهود؟ وما هي اليهودية؟ أسئلة الهوية وأزمة الدولة اليهودية).
النخب الفكرية والسياسية والثقافية والاجتماعية اليهودية الرافضة لاحتلال فلسطين مثل نوم تشوموسكي وايلان بابيه، ونورمان فينكلشتاين، وعالم النفس غابور ماتي.. وغيرهم ممن سمحت لهم الأحداث الأخيرة بالظهور في وسائل الإعلام العالمية المتحالفة مع إسرائيل والمشروع الصهيونى. هؤلاء تمت دعوتهم في بداية الأحداث إلى البرامج الحواريه لكي يقدموا الإدانة لما فعلته حماس، ولكن كانت المفاجأة أن هؤلاء أدانوا حماس وأدانوا إسرائيل بشدة، وأدانوا استمرار حصار غزة، وقالوا إن ما فعلته حماس يوم 7 أكتوبر يماثل ما تفعله إسرائيل في الفلسطينيين منذ قيامها. وكانت مشاركاتهم صدمة لإسرائيل وحلفائها.
مشروع السلام أيضاً يخدم أمريكا التي ظلت تبحث عن مشاريع للسلام في المنطقة منذ المشروع الذي أراده نيكسون في بداية السبعينيات. يذكر وليام كوانت في كتابه (عملية السلام، 2001) أن الرئيس نيكسون سعى لإيجاد (هيكل للسلام) تستند مقوماته الأساسية على الانفراج الأمريكي - السوفييتي، والحد من التسلح، وتطبيع العلاقات الأمريكية - الصينية، وكان يتطلع إلى الاستفادة من الانفراج في الحد من المخاطر على السلام العالمي والكامنة في النزاعات المحلية.
ويقول كوانت إن هذه السياسة الخارجية الطموحة، جاءت في وقت كانت تجري فيه استفاقة شعبية واسعة تطالب بعدم اضطلاع أمريكا بدور الشرطي العالمي، مع تفادي العزلة المفرطة في نفس الوقت. وهو ما عُرف بـ»مبدأ نيكسون».
الآن في أمريكا ظروفٌ مشابهة، وأوضاع اقتصادية صعبة وانقسام داخلي واسع، ومثل هذا المشروع اليهودي للسلام لا يعني التخلي عن إسرائيل، بل هو في مصلحتها. فالعرب لن يكون لديهم مشروع عسكري، وأيضاً الأغلبية العظمى من اليهود لا ترى أن الصراع في فلسطين هو بين داوود وجالوت، أي تراجع التفسيرات الدينية لن تحدد مستقبل الصراع.
النخبة اليهودية الرافضة للمشروع الصهيوني هم الأقدر والأعرف بكيفية مخاطبة الغرب، وسوف يؤدون دوراً كبيراً خصوصاً مع تطور وسائل التواصل الاجتماعي التي ربطتهم بالقاعدة الشعبية وقدمت لهم المنصات الإعلامية المستقلة. وهم أيضاً خبراء في إدارة الصراع السياسي، وفي قضايا الشرق الأوسط.
إطلاق مشروع السلام اليهودي الأفضل أن تتم خطواته الأولى عبر (تأسيس مركز للدراسات والأبحاث وصنع السياسات) يستقطب هذه النخبة اليهودية، لكي يتيح لها فرص الالتقاء والبحث والتشاور في الأمور التي تهم السلام والأمن والتعايش في المنطقة.
مع بقاء فلسطين البلد الوحيد المحتل، ايلان بابيه المؤرخ اليهودي المعروف يرى أن على العرب ضرورة التعلم من كل حركات التحرير التي تمت في الشرق الأوسط وإفريقيا للتخلص من الاستعمار الأوروبي، وأخذ هذه الحركات كحالات دراسية للتعلم منها. دراسة ماذا حدث وتحقق، والاستعداد لما بعد التحرير، وتحديد المكاسب والسلبيات والإيجابيات. أي وضع مشروع شامل يحدد كيف يعيش الناس في فلسطين كما كانوا قبل المشروع الصهيوني.
نحن أمام فرصة تاريخيه.. فهل نستثمرها أم نظل نضيِّع الفرص؟