حسن اليمني
مرة أخرى في مواجهة الواقعية للمنطق الطبيعي ظهر عضو حركة فتح اللواء أسامة العلي في قناة الجزيرة ليمثل الواقعية بشكل منطقي مقنع إلى درجة ربما تعيد المشاهد إلى التفكير مرة أخرى في منطقية حركات المقاومة الفلسطينية التي ستبدو له عبثية وحتى متناهية مع رغبة الكيان الصهيوني في إغلاق ملف اتفاق أوسلو، لكن هل كان هذا الاتفاق فعلاً نصراً لفلسطين أو الفلسطينيين؟
الحقيقة أن هناك الكثير الذين يرون رؤية العلي لكنه ربما واحد من أفضل من تحدث بهذا الشأن بصدق ووضوح، فعلاً حركة حماس هي مليشيا تحرر مثلها مثل باقي المليشيات الساعية للتحرير وعدم الاعتراف بالكيان المحتل بما في ذلك حركة فتح التي ينتمي إليها أسامة العلي، وفعلاً وافقت كافة الحركات الفلسطينية المنضوية في منظمة التحرير الفلسطيني على اتفاقية أوسلو وأسقطت خيار المقاومة المسلحة، أما حماس والجهاد وهما اليوم أكبر حركات المقاومة الفلسطينية فمنذ البدء وقفتا رافضتين للاتفاق مع احترام وجود منظمة التحرير الفلسطينية لكن مع التحفظ على إقرار أو اعتراف بتمثيلها للشعب الفلسطيني، والتحفظ كان بحسب رأي حركتي حماس والجهاد لحاجة المنظمة لإعادة انتخاب أعضائها خاصة وأن كثيراً منهم توفي وآخرون لم يعد بمقدورهم بحكم السن القيام بعملهم، ومن اتفاق أوسلو وإعادة انتخاب مجلس منظمة التحرير انفصل المسار الفلسطيني إلى مسارين واحد يحظى بالقبول الدولي وآخر يصنف في بعض الدول بالإرهاب، المسار الأول يتمسك بالاتفاق ويسعى بالصبر والتغافل عن تجاوزات الكيان الصهيوني للوصول لتحقيق المكاسب الممكنة في حين يرى المسار الثاني الرافض للاتفاق أن المقاومة هي الخيار الوحيد، والناظر من خارج دائرة هذا الانقسام الفلسطيني واليائس من اتفاق الطرفين سيجد أن كلا الطرفين يملك منطقية صائبة لكن الاستمرار دون توحد يجعل البحث عن حلول إبداعية خارج صندوق الفكر المألوف ربما هو خيار المرحلة الأكثر نجاعة في الوصول إلى سلام يعم الأرض الفلسطينية وأمان حياة الإنسان الفلسطيني، وهو المسار الذي اختارته دول عربية في إقامة العلاقات السياسية مع الكيان.
المنطق الطبيعي للتاريخ الإنساني أن التحرر من الاحتلال يستلزم مقاومته بكل الإمكانات المتاحة بما فيها السلاح والقوة لكن أيضاً دون غلق أبواب البحث عن حلول سياسية، وهنا يكون موقف حماس والجهاد صائباً من جهة المقاومة وملتبساً من جهة البحث عن حلول سياسية فهي نأت عن ذلك وجعلته بيد السلطة الفلسطينية دون تحمل تبعاته، بمعنى إن جاء بالخير فهم فيه شركاء وإن جاء بغيره فهم براء منه ويقفون ضده، جانب السلطة الفلسطينية يريد وقفاً تاماً عن أي احتكاك مقاوم للكيان الصهيوني والتركيز على تنفيذ بنود اتفاق أوسلو، حتى وإن لزم الأمر باستخدام القوة العسكرية لردع أي رد فعل لأفراد أو جماعات فلسطينية ضد كل تحرش إسرائيلي محتمل لإثارة الوضع المتعمد من الكيان لتعطيل تنفيذ الاتفاق، وبذات الوقت غير قادرة على مواجهة حركتي حماس والجهاد، ومن جهة الدول العربية المهتمة تجد أنها أمام مأزق سردي لا نهاية له مع بقاء القتل والتدمير للإنسان الفلسطيني المبعثر بين مقاومة ومسالمة، ومن هذه الصورة وتلك ظهرت أقاويل التخوين والعمالة والتبعية وما إلى ذلك، في حين أن حقيقة الأمر فوضى وتشتت في المسارات والمسالك نتيجة عدم التوافق على مسار واحد، وكل طرف يجتهد بصدق وإخلاص في مساره واستمرار ترديد عبارات غير مستحقة مثل عمالة وخيانة هو بحد ذاته مسار جديد معطل ومعرقل أو في أقل الأحوال مرهق للباحثين عن خلاص للشعب الفلسطيني.
المنطقية الواقعية ترى أن وجود الكيان المحتل أمر واقع مستمر، وطالما يحظى بحماية دول عظمى مثل أمريكا وحلفائها فإن زواله لا يكون إلا بقوة توازي هذه القوة على أقل تقدير وهو أمر مستبعد في المنظور القريب، لكن هناك أسلحة اقتصادية وتجارية وشراكات يمكن أن تستخدم بحكم توفرها عربياً للوصول للدولة الفلسطينية كخيار بديل ومتاح ومتوفر وبطريقة ذكية إبداعية حين تداعب الهوس المادي للعالم الغربي بما في ذلك الكيان المحتل، بيد أن أثر ذلك على السلاح الأهم والأقوى وأقصد الهوية الثقافية والاجتماعية سيكون خطراً للغاية لأنه في نهاية الأمر سيصل إلى إعادة هيئة الدولة العربية.
وفي المنطقية التاريخية لم يتحرر وطن محتل إلا بقوة السلاح وإثخان المحتل كلفة تجعل استمرار احتلاله أشبه بالانتحار، والمنطق هنا أن أي احتلال إنما يسعى لرفاهية شعبه وتضخيم قوته وتوسيع نفوذه أما حين يظهر العكس فالمنطق أن يخرج، هكذا خرج هتلر من فرنسا وهكذا خرجت فرنسا من الجزائر وهكذا خرجت إيطاليا من ليبيا وهكذا خرجت أمريكا من فيتنام وإلى آخره، كل دولة محتلة لم تتحرر باتفاق سلام وإنما اتفاق جلاء وتحرير، لا يوجد على مر التاريخ سلام بين احتلال ومحتل، وبالمنطق الطبيعي شعب فلسطين لا يختلف عن أي شعب تم احتلاله ونال التحرر بالمقاومة وطرد المحتل.
والأمر كذلك فإن ما تفضل به اللواء أسامة العلي من أن خيار اتفاق أوسلو هو السبيل للتحرر وإقامة دولة فلسطين وأن حركات المقاومة الفلسطينية هي من تقف بجانب اليمين المتطرف في الكيان المحتل لتعطيل هذا الاتفاق والقضاء عليه هو في الحقيقة ليس إلا خيار إحلال استجداء الرحمة من الاحتلال بدل مقاومته، وبالتالي كان الرد بالمقاومة المسلحة منطقاً طبيعياً، ولو أن السلطة الفلسطينية بما أنها اختارت المسار السياسي استثمرت رد فعل المقاومة في الضفة الغربية لربما استعادت ظهورها وأهمية وجودها وكان إنشاء دولة فلسطين بشكل ما احتمالاً أقرب وسيجد دعماً من دول أوروبا وحتى أمريكا، لأنه ببساطة يعيد القضية الفلسطينية للمربع الأول عام 1948م، ويستدل على هذا الاحتمال ظهور مواقف من دول أوروبية إزاء ما يحدث اليوم في غزة بضرورة إنشاء دولة فلسطينية، فالحروب بالمنطق الطبيعي تظهر للوصول للسلام والأمن، أما انتظار القضاء على المقاومة فالمقاومة فكر لا ينقضي وهي أداة التحرير الأولى وما عداها ليس إلا داعماً ومسانداً وليس أكثر، وأخيراً فإن الاحتجاج بالضحايا والنفوس البشرية التي تزهق فالجزائر تفتخر حتى اليوم أنها بلد المليون شهيد.