سهام القحطاني
«هيهات هيهات لمبادئ تم استخلاصها بالجدل أن تُعين أحدًا في كشف نتائج جديدة.»-فرانسيس بيكون-
يعتبر ابن تيمية رجل الدين الأشد خصومة مع الفلاسفة،خصومة ظهرت من خلال التحليل و التفنيد وأحيانا الإضافة، وهذا يعود إلى الخلفية الفكرية التي تميز بها، وجعلته ندا لكل فيلسوف.
عارض ابن تيمية منهج المنطقيين في مراتب الحدّ، كما عارض مغالطات القياس عندهم.
قام المنطق عند فلاسفة المسلمين على ركيزتين «التصور من خلال الحدّ، والتصديق من خلال القياس».
فيقول: «بنوا المنطق على الكلام في الحد و نوعه،والقياس البرهاني ونوعه؛لأن العلم إما تصور، و إما تصديق، فالطريق الذي ينال به التصور هو الحدّ، والطريق الذي ينال به التصديق هو القياس.»-الرد على المنطقيين-
والقياس عند المنطقيين كما يوضحه خمس مراتب « إن كانت مادته يقينية فهو البرهاني،وإن كانت مسلّمة فهو الجدلي،وإن كانت مشهورة فهو الخطابي،وإن كانت مخيّلة فهو الشعري،و إن كانت مموهة فهو السوفسطائي»-السابق-.
كما انتقد منهج الاستنباط المعتمد في تحليل المنطقيين «الاستدلال بالكلي على الجزئي» وهو ما يسميه «قياس الشمول».
ويرى أن «قياس التمثيل» أو منهج الاستقراء هو الأصح في مجال التصديق؛لأن الفكر الإنساني تتكون معرفته أولا حسب إدراكه للجزئيات، قبل إدراكه للكليات.
لذا رفض ربط قياس الشمول بتحقيق التصديق،وهذا ما أقرّه فرانسيس بيكون «لايمكن أن يكون سوى طريقتين اثنتين للبحث عن الحقيقة
واكتشافها:الأولى تقفز من الحواس و الجزئيات إلى أكثر المبادئ عمومية،أما الثانية فتستمد المبادئ من الحواس والجزئيات ثم ترتقي في صعود تدريجي ..حتى تصل في النهاية إلى أكثر المبادئ عمومية»-ترجمة عادل مصطفى-
كما يرفض ابن تيمية ربط التصديق بالقياس و يعتبر» حصر العلم على القياس قول بغير علم»؛ «إنه لايعلّم شيئا من التصديقات إلا بالقياس،الذي ذكروا صورته و مادته -قضية سلبية نافية-ليست معلومة بالبديهة،ولم يذكروا على هذا السلب دليلا أصلا»-الرد على المنطقيين-
فهو يرى أن اعتماد التصديق على قياس ما يمكن للمرء استنتاجه بالتصور البديهي أوالنظري،أو أن قياس التصديق بالوجود أو عدمه بالنفي
والسلبية -أي مالم تحدد كيفيته و ماهيته لايمكن قياسه أوتصديقه،وبالتالي فإن السالب مثل الإيجابي مؤشرا تصديق،وهذا المسار في رسم آلية قياس التصديق في رأي ابن تيمة لا يحقق أي علم أو معرفة؛لأن اعتماد قياس التصديق على النظري أوالبديهي في الاستنتاج لا يمكن أن يُحقق أي يقين ثابت؛ بسبب تفاوت قدرة الإنسان في الاستنتاج و أدواته.
فليس كل مالم تستطع حواسنا أو عقولنا الوصول إليه هو موضوع إنكار؛لأن هناك ما يُخفى على قدرة الإنسان الحسية والعقلية.
ومن المسائل الجدلية التي ناقضها ابن تيمية ،القول بجواز تجاوز الحدّ الأوسط في القياس لكونه لا يُمثل الدليل بل التمثيل، وهو ما نسميه مغالطة «الوسط غير المستغرق»و الدليل في رأيهم يُغني عن التمثيل، ولاكتفاء بالمحمول و النتيجة لتوفر التلازم،فعندما نقول كل إنسان يفكر»محمول» «محمد يُفكر» - نتيجة،وبذلك تجاوزت الحدّ الأوسط» لكون «محمد إنسان» لقرينة تلازم امتلاكه التفكير.
ويرى أن محمول القضية هو أمر متعارف عند الإنسان،لكن ما يحتاجه الفكر هو «التمثيل» الذي يحققه الحدّ الأوسط لكونه قرينة تصديق بالنسبة للفرد وحجة له لشرحها لغيره ،لكون الحدّ الأوسط هو الجزء المعين لتكوين فكرة المعرفة، «ويبين ذلك لغيره بأدلة هو غني عنها، حتى يضرب له أمثالا...و يحتج عليه من الآلة العقلية بما يكون حدا أوسط عند المخاطب مما لا يحتاج إليه المستدل-السابق-
فالحدّ الأوسط قرينة تعريف وتصديق ليس للعارف بل للمتعلّم.
و تقرير المنطقيين أن كل ماهو عقلي لا يحتاج إلى تمثيل،إنما دليل، في رأي ابن تيمية «يفتح»باب القطع والظن في العقليات و الشرعيات»-السابق-.
ويزيل الثوابت والحدود الآمنة بين الوهم واليقين ويجعل العقل هو المتحكم في قضية الإيمان والإنكار، متجردا من أي إحالات، بناءً على التصور الذي اكتسبه و أقيسته المتفاوتة في الصحة والخطأ ،وفق قدرات المرء في هذين المجالين.
إن لابن تيمية رؤية فكرية تجلّت في رده على المنطقيين سواء اتفقنا معها أم اختلفنا.
لكن بلاشك أن تلك الرؤية حملت مؤشرات وجدناها بعد ذلك عند فلاسفة غرب مثل فرانيسيس بيكون و ديكارات،وهذه الرؤية لا يمكن أن نستفيد منها في إعادة تقويم الفلسفة المعارضة لابن تيمية لفلاسفة عصره؛ إلا إذا حررناه من موقفنا المتوارث نحوه.