د.عبد العزيز سليمان العبودي
قبل انتشار الهاتف والإنترنت، وتطبيقات التواصل الاجتماعي، كانت الرسالة هي أداة التواصل الرئيسية بين الناس والأهل والأصدقاء، فكانت قليلة التكلفة، عابرة للدول والقارات، لتصل إلى وجهتها، فيبقى أثرها سنيناً. وأغلب هذه الرسائل إما أن تكون عاطفيةً بين عشاق، أو بين الأب وابنه ينثر له فيها خبرته في الحياة مع نصائح صادقة، من قلبٍ عطوف. أو تكون بين المفكرين الأقران، يتناقشون خلالها الأمور ذات الاهتمام المشترك. وحيث إن الوقت الذي تستغرقه الرسالة للوصول طويل، فليس هناك عجلة في أمر كتابتها فتنضج على مهل مليئة بالرؤى والأفكار والمشاعر.
ففي الرسائل العاطفية، تكاد الحروف تتراقص بين السطور، فتلج الرسالة داخل الظرف، وقد تندس معها وردةٌ مجففةٌ تتضوع طيباً، فإذا وصلت الرسالة مبتغاها، فاح ريحها، وتكلمت الحروف، فلا تكاد تمضي الدقائق، حتى تبتل الورقة بدموع القارئ. فيبعث بالرد وينتظر إعادة الرد حتى أصبح يعشق طلة ساعي البريد، ويشتاق لرؤية دراجته. ومن أشهر الرسائل العاطفية والتي تحولت إلى كتاب، رسائل جبران خليل جبران مع مي زيادة. فنشرها جبران ضمن كِتاب أسماه «الشُّعلة الزّرقاء»، فتضمن الكتاب سبعاً وثلاثين رسالة، وهي مجموعة الرسائل التي أرسلها إلى الأديبة مي زيادة. ففي إحداها يقول: «ما أجمل رسائلك يا ميّ وما أشهاها، فهي كَنهر من الرحيق يتدفق من العالي ويسير مترنمًا في وادي أحلمي، بل هي كقيثارة أورفيوس تقرّب البعيد وتبعد القريب وتحول بارتعاشاتها السحرية الحجارة إلى شعلات متقدة والأغصان اليابسة إلى أجنحة مضطربة، إن يومًا يجيئني منك برسالة واحدة لهو من الأيام بمقام القمة من الجبل، فما عسى أن أقول في يوم يجيئني بثلاث رسائل؟ ذلك يوم انتحى فيه عن سبل الزمن لأصرفه متجولًا في إرم ذات العماد». وبنفس السياق، يحتوي كتاب «رسائل إلى ميلينا» على مجموعة من الرسائل الخاصة بين الكاتب النمساوي فرانز كافكا، والمترجمة التشيكية ميلينا يسينسكا، تم نشرها بعد وفاة كافكا. وتتناول الرسائل حب كافكا لميلينا وصراعه مع ذاته وعائلته ومجتمعه وأعماله الأدبية. وكذلك كتاب «رسائل إلى لويز كويلريه» وهي مجموعة من الرسائل الخاصة بين الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه والكاتبة الفرنسية كويلريه، تم نشر الكتاب بعد وفاة نيتشه. وتتناول الرسائل أفكار نيتشه الفلسفية والأدبية والنفسية والعاطفية، وتظهر تأثير كويلريه على حياته وفكره.
وفي سياق آخر، تحتوي رسائل الآباء الموجهة لأبنائهم على عصارة الخبرة، والرغبة الصادقة من الأب لابنه بالتميز والنجاح. ومن أمثلة ذلك كتاب «رسائل إلى ابني»، وهو كتاب من تأليف الكاتب الأمريكي تانيهيسي كوتس، ويتضمن رسالة طويلة كتبها لابنه البالغ من العمر خمسة عشر عامًا، يتحدث فيها عن تجربته كرجل أسود في أمريكا، ويناقش فيها مواضيع مثل التاريخ والعنصرية والعنف والهوية والأمل. هذا الكتاب حاز على إعجاب النقاد والقراء، وفاز بجائزة الكتاب الوطنية للأدب الواقعي. أما كتاب «رسائل إلى سام» من تأليف الكاتب الأمريكي دانيال جوتليب، فيتضمن مجموعة من الرسائل التي كتبها لحفيده سام، الذي يعاني من متلازمة أسبرجر، وهي اضطراب في طيف التوحد. ويقدم الكاتب في هذه الرسائل نصائح وتجارب وحكمة عن الحياة والموت والحب والعمل والصداقة والسعادة والمعاناة، وتعزيز العلاقة بين الأجيال والتفاهم وتقبل الآخر. وأما كتاب «رسائل من أب لابنه»، للشيخ سلطان العمري، فيتضمن مجموعة من الرسائل التي كتبها لابنه الأكبر بعد قبوله في الجامعة، يقدم فيها نصائح وتوجيهات مهمة للأبناء في مختلف المجالات، مثل العبادة والأخلاق والتعليم والمجتمع والأسرة والمستقبل. بالإضافة إلى تعزيز العلاقة بين الآباء والأبناء، وترسيخ القيم الإسلامية والوطنية في نفوس الجيل الجديد.
وبالنسبة للرسائل التي يتبادل خلالها الأقران آراؤهم وطروحاتهم الفكرية، فأبرز الأمثلة لذلك كتاب « لماذا الحرب؟» والذي يحتوي على رسالتين متبادلتين بين ألبرت أينشتاين و سيغموند فرويد. وقد نُشر الكتاب عام 1933 من قبل المعهد الدولي للتعاون الفكري. كما كانت هذه المناظرة جزءًا من سلسلة دولية من الرسائل المفتوحة برعاية المعهد. واحتوى الكتاب وجهات نظر أينشتاين وفرويد في قضايا عديدة مثل الدولة، والسلطة، والطبيعة البشرية، والنوازع العدوانية، والمسؤولية الأخلاقية لقادة الفكر في العالم، وأخيرًا وهو الأهم، الجذور العميقة للحرب. وشبيه بذلك كتاب «أيام العمر» والذي حوى مجموعة من الرسائل الخاصة بين الأديبين طه حسين وتوفيق الحكيم، جمعها وحررها إبراهيم عبد العزيز. وتتناول الرسائل مواضيع مختلفة مثل الأدب والفن والسياسة والحياة الشخصية، ويعكس الكتاب العلاقة الصداقة والاحترام بين الكاتبين. أما كتاب «رسالة في الطريق إلى ثقافتنا» فاحتوى على رسالة الكاتب المصري محمود شاكر إلى صديقه عبد الرحمن بدوي. ويتناول خلالها مواضيع في الثقافة الإسلامية والعربية والعلاقة بينهما وبين الثقافات الأخرى، وينتقد بعض الاتجاهات الفكرية والسياسية في العالم الإسلامي. ولم تكن تلك الرسائل حكرًا على الكُتاب، فالرسام الهولندي فنسنت فان جوخ، أرسل مجموعة من الرسائل إلى أخيه ثيو، وتم نشر تلك الرسائل في كتاب تحت عنوان «رسائل إلى ثيو». تتناول الرسائل حياة فان جوخ الفنية والنفسية والعاطفية والمادية والروحية، وتظهر دعم ثيو المستمر لأخيه وإلهامه. وبنفس السياق يحتوي كتاب «رسائل إلى صديق» مجموعة من الرسائل الخاصة بين الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو والسويسري فرانسوا ميرسييه. تتناول الرسائل أفكار روسو الفلسفية والسياسية والدينية والتربوية والأدبية، وتعبر عن صداقتهما الوثيقة وتقديرهما المتبادل. وكذلك كتاب «رسائل إلى مونتسكيو» والذي يحتوي على مجموعة من الرسائل الخاصة بين الإنجليزي ديفيد هيوم والفرنسي شارل مونتسكيو.
ومع تطور وسائل التواصل، فقد تتحول تغريدات منصة إكس وردودها، أو منشورات الفيس بوك، أو مراسلات الواتس، كتبًا، تبقى لفترة أطول من تلك المنصات، وتنعتق من شروطها.