أحمد بن عبدالله الحسين
أول دولة وإمبراطورية للفُرْس تشكلت على يد «كورش» الكبير الأخميني قبل أكثر من 2500 سنة، والأخمينيون هم أسرة ملكية فارسية. كورش اسم عيلامي (نسبة إلى قوم سبقوهم في التوطن) معناه راعي ولد عام 590 ق.م خَلفَ والده قمبيز الأول على عرش مدينة إنشان وبيرسيس (فارس)عام 559ق.م.
عام 550 ق.م استطاع كورش أن يوحد الأقوام الآرية وهما الفرس والميديون بعدما ترك البابليون ارتباطهم ودعمهم للميديين وهم آريون، وهذا ما دفعه لتوسيع مملكته فاحتل ليديا (غرب آسيا الصغرى) وأجزاء كثيرة من الجزر الإغريقية، بعدها احتل المناطق حول نهر سيحون الذي يَصب في الأورال مُؤمِّناً بذلك حدوده الشرقية من هجمات القبائل الرحّل في آسيا الوسطى.
الاحتلال الأكبر لكورش كان بابل عام 539ق.م والتي تعتبر أقدم وأقوى حضارة باقية في بلاد الرافدين آنذاك. ومملكة بابل تشمل بلاد ما بين النهرين وفينيقا (المناطق الساحلية لسوريا ولبنان وفلسطين). جعل كورش بابل إحدى عواصمه حيث توج نفسه ملكاً فيها، إلا أن عاصمته الأساسية الجديدة الفارسية هي باسارغاد والتي تعني معسكر الفُرْس تقع على بعد 150كم شمال شرق مدينة شيراز. في هذه العاصمة باسارغاد استلهم كورش من بابل فنها المعماري الذي تمثل بالمنصات وتماثيل القصور البابلية والآشورية، وأضاف كورش الثيران المجنحة والجنيات إليها، وأخذ من الرموز المصرية الأعمدة، وبذلك تجد أن كل هذه المؤثرات والنقوش الحجرية تم دمجها وانصهارها لتظهر فيها لمسات فارسية فنية تزينت فيها العاصمة باسارغاد.
كورش تُوُفّي عام 530ق.م في حرب بلاد التتر وأوصى لابنه قمبيز بالملك، قبره هو أكبر صرح باقٍ في العاصمة باسارغاد تزين بنقشٍ فوق البوابة للقبر مخطوط باللغة الفارسية القديمة والعيلامية والبابلية معناه «أنا كورش الملك الأخميني».
خلف كورش لوحة تذكارية تُعرف بأسطوانة كورش، وهي قطعة طينية نقش عليها بالخط المسماري شرعة لحقوق الإنسان.
والتسامح بين الأديان مثل بيان من الملك كورش، تم اكتشافها عام 1879م في بابل وهي موجودة الآن في المتحف البريطاني تحتوي هذه الأسطوانة الطينية على 45 سطراً هي التي تم قراءتها والباقي 25 سطراً ممحواً بعامل الزمن جاء فيها؛ «لقد أعدت إلى هذه المدينة المقدسة (يقصد بابل) المقادس التي بقيت أطلالاً للمدى الطويل، والتماثيل أن تعيش فيها، وأقمت لها مقادس دائمة. لقد جمعت كل السكان السابقين وأرجعت السكان إلى مواطنهم الأصلية ( اليهود)، وإني لأرجو كل هذه الآلهة التي أعدت تسكينها في مدنها المقدسة أن يسألوا لي يوماً الآلهة بيل ونبو (آلهة كتابة وحكمة قديمة في بلاد الرافدين)، ويطلبوا لي لكي يهبّوا لي حياة طويلة وأن يقولوا للآلهة مردوخ (آلهة بابل) كورش الملك الذي يعبدك وقمبيز ابنه».
كورش اشتهر بما فعل لليهود الذين تعرضوا للسبي البابلي، وذلك حينما تمكن كورش من احتلال مدينة بابل عاصمة الدولة الأشورية عام 539ق.م وكان فيها من تعرضوا للسبي البابلي. السبي البابلي هذا قام به الملك نبوخذنصر على قبائل ومنهم قبيلة بني إسرائيل في جزيرة العرب واليمن والتي كانت تدين بدين اليهودية، وهذه القبائل مجتمعة وليس اليهود وحدهم كانت ضحية أعمال اضطهاد وقعت على أيدي الآشوريين وهذا خلاف ما ذهب إليه التوراتيون في حقيقة السبي باعتباره حدثاً يخص اليهود وحدهم، وأنه وقع في فلسطين وهما أمران لا صحة لهما على الإطلاق فلا السبي استهدف اليهود وحدهم لأنهم يهود، ولا الحادث وقع في فلسطين لأنها كانت متمردة على سلطة الآشوريين.
والصحيح أنها استهدفت القبائل في الجزيرة العربية واليمن لأنها كانت بسلوكها الاستقلالي وتقاليدها، بالإضافة إلى إعاقتها لطرق التجارة التي فيها مصلحة الآشوريين. وكل هذا شكل تهديداً يتطلب الخلاص منه وإضعافه، وهذا ما تؤكده النقوش المسجلة عن تسع حروب شنَّها الآشوريون ضد القبائل التي كانت تهاجم حدود الإمبراطورية من التخوم الصحراوية ولم يكن بنو إسرائيل آنذاك سوى قبيلة صغيرة من هذه القبائل.
اليهود دفعوا بسرد تاريخي توراتي ممنهج ومنظم لاحتكار صورة الضحية في السبي البابلي وتبعهم كثير من الاستشراقيين الغربيين وبعض مؤرخي التراث العربي. ولَك أن تقرأ بحوث الباحث الأنثروبولجي العراقي المولود في بغداد عام 1952م د. فاضل الربيعي في كتابه حقيقة السبي البابلي، وكتاب فلسطين المتخيلة الذي يحلل ويكشف ملابسات ذلك السبي وهنالك العديد من الدراسات النقدية الأنثروبولوجية تؤكد ما ذهب إليه د الربيعي.
ونعود للملك كورش حينما تمكن من دخول بابل وأسقط الدولة الآشورية ابتهج اليهود لنجاح كورش، وتقديراً لهذا سمح لهم بالعودة إلى الأرض التي أتوا منها. كورش قد أدرك الفائدة من وجود طائفة يهودية تخضع له، وتقيم على طريق القوافل التجارية غرب شبه جزيرة العرب بحيث يتمكن من السيطرة على تلك المنطقة، وقطع الطريق على محاولات ملوك مصر ووادي النيل للسيطرة عليها.
وهذا ما سمح لليهود الذين عادوا إلى تلك الأرض أن يستفيدوا من سيطرة الفُرْس الذين منحوهم كثيراً من الامتيازات الخاصة، منها إعادة بناء المعبد وممارسة شعائرهم الدينية. وهناك قسم من اليهود رفض العودة إلى الأرض التي كانوا فيها لامتلاكهم الدور والأراضي، وأصبح لهم مصالح في بابل حيث استفادوا من حضارة البابليين وثقافتهم، واقتبسوا الكثير وبخاصة التشريع والأساطير وأمور الزراعة والتجارة.
ويؤكد المؤرخون أن كهنة الموسويين قاموا بكتابة التوراة البابلية بالخط الآرامي ووضعوا التعاليم الدينية الخاصة بهم والمعروفة باسم التلمود في بابل.
يذكر المؤرخ اللبناني د فيليب حتي (1886-1978)م والأستاذ الزائر بجامعة هارفرد في كتابه تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين ما نصه؛ (أن الذين استجابوا لهذه الدعوة (دعوة كورش) هم بصورة رئيسية من العناصر الناقمة، ومن الذين لم تكن لهم جذور في الأرض الجديدة وقد فضل أغنياء المسبيين البقاء حيث هم).
أما الدكتور المفكر السوري د. أحمد دَاوُدَ المولود عام 1942م في اللاذقية في كتابه تاريخ سوريا القديم فيذكر؛ (أن الصدمة التي أحدثها لقاء العائدين إلى الأرض التي أُسروا منها فالمدن قرى صغيرة معلقة على أكتاف الجبال، وبالتالي إن شيئاً ما لم يكن ليشدهم إلى المكوث في تلك الأرض بين أناس أغراب، وهكذا بدأت لدى البعض فكرة التحول والانتقال من شبه جزيرة العرب فتركوها وتوزعوا في سوريا الجنوبيّة)، وبخاصة في فلسطين ليصبح لهم دور بعدها في العهدين اليوناني والروماني.
هذا ملمح لأول دولة فارسية حدثنا التاريخ عن شأنها، وكيف كان نفوذها وتوسعها، والعلاقة المترابطة باليهود. أصداء هي عبرة وتأمل ولا زال رنينها لم يصمت.