د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
يعتبر القص التاريخي الوطني الدرامي مفتتحاً حديثاً لصياغة التاريخ الوطني في قوالب فنية جديدة، فالتاريخ مساحات منداحة بلا حدود، ويظل في صنوف المعرفة من الصياغات المتوهجة ما دام البشر يمشون في مناكبها! فيؤمّن لنا السرد القصصي التاريخي الدرامي تمام المشاهد وينبلج شاسعاً كلما نقبنا في أعماقه؛ ولو كنا بعيدين عن مضمار الأحداث وكأنما التاريخ ينسكبُ في أعماق الحاضر لينتعش ويعشوشب المستقبل، كما أن التاريخ شبكة ذهبية تكتنز بالصور والقول والحدث والموقف فتتآلف كل تلك المكونات في السرد القصصي لصياغة أحداث التاريخ بطوابع فنية خصبة وبمدركات مؤثّرة عميقة؛ ونؤمن أيضًا أن الفنون في عمومها والقص التاريخي كذلك جزء أصيل من المشروع النهضوي لتأصيل القيم المستقاة من الأحداث التاريخية، وأن الدراما ديباجة السرد الروائي وجسر التواصل الأمين بينه وبين المتلقي، والأجمل أنها تصبُّ في عالم الانتماءات الصادقة للأوطان حينما تنقل صور النماذج الوطنية الشجاعة، وعندما تبسط المشاهد والصور عن البطولات الوطنية فبلادنا تقطن القمم الشاهقة منذ الأزل؛ وتاريخنا السعودي جذوة متقدة منذ التأسيس، وعندما توالت العهود الملكية زخرت حياضنا بينابيع فوارة من قصص البطولات الوطنية التي كانت صيداً ذهنياً وافر العدد والعدة لصناعة الولاء الوطني والفداء المكتنز، فتاريخنا الوطني لم يبنَ على الصُدف والمواقف العابرة؛ إنما هو صناعة مجد واجتماع قلوب وتوحيد همم؛ كما أن تاريخنا الوطني ليس مجرد صفحات من السرد المدعم بالوثائق والأسانيد وليس شبيهاً بمعارض الصور الثابتة إنما هو أقرب بشريط سينمائي عن حياة دولة عظيمة اكتملت ملامحها التفصيلية ملمحاً بعد ملمح حتى أصبحت كياناً عملاقاً تخفق راياته عالياً باسم المملكة العربية السعودية..
وإذا علمنا أن المشهد الذي تقدمه الرواية التاريخية ما هو إلا تدوين سخي لأحداث حقيقية تلقفها خيال الروائي القاص لالتقاطاتٍ متصلة بتاريخ الأوطان والمجتمعات وهي جزء من عدة مكونات؛ وأن تكامل تلك المكوّنات يصنعه خيال المُتلقي عندما تكون الصورة الذهنية ماثلة أمامه في شذرات أو روايات متواترة عن المُجايلين لأماكن الأحداث وزمانها، ولذلك فالمتلقون أو المشاهدون خارج المحلية ربما لا يفهمون وفق ما أراده المنتجون لهم لأن عقولهم تخلو من الخلفية المعرفية التي تمكنهم من استيعاب الرسالة المتوخاة في الحبكة القصصية، ولذلك فالسقف الروائي يجب أن يتشكّل من قبة عالية صادقة في عناصرها يراها العالم بوضوح من خلال استخلاص المحتوى من مصادر وثيقة للتاريخ ثم صبّه في قوالب قصصية عليا يتوشحها الخيال الخصب الذي لا يسلب الأحداث مصداقيتها..
وتأسيسًا على ذلكم الرأي وبعيدًا عن النقد بمفهومه المتفق عليه، وتأسيسًا على الأبعاد الفنية لفن القص كفن راق إذا ما استخلص الفكر في حبكة مدروسة بعناية لها نسيجها حين يستهدف استزراعها في النسيج الثقافي الوطني لتكون جزءًا أصيلاً من الثقافة الوطنية كما أن الرواية التاريخية مسترادٌ جاهز لإبراز البطولات الوطنية مما يحفظ تفاصيل ربما تجاوزها الرصد البحثي المعتاد..ونعي تمامًا أن العمل الروائي ليس رصدًا وثائقيًا للحفظ والبقاء؛ ولكن تبقى الفكرة الناضجة هي من تصنع المحتوى وتبني منصاته؛ ومن ثم يأتي دور المشاعر أصيلاً في أعماق الكاتب، ولا بد أن يكون بحوزة الشخصيات سقف معرفي مرموق ولغة مستنيرة! تنبئ عن تفرّد بلادنا في عهودها المتوالية منذ التأسيس إلى عهدنا الزاهر وصناعة فنية جديدة كان لا بد من حضورها في مشروع تطوير ثقافتنا الوطنية؛ وأن يحظى المنتج القصصي التاريخي السعودي بكيل مجزٍ من التمعن والاهتمام لأنه رسالتنا للأجيال الحاضرة والمقبلة؛ ولأنه أيضًا إضاءة لبلادنا في الخارج؛ ولأنه توثيق في صور فنية رائجة، حيث القص الروائي التاريخي فن يتعالى حضوره ووزنه ووقعه؛ فلا بد له من صياغة تشريعات خاصة جداً لفن القص التاريخي وتحويله إلى دراما، وربما كان التأسيس الأكاديمي مساراً ممكناً لرواد القصة والرواية في بلادنا ليتحقق من خلالها إتقان الصناعة وتحقيق الثقافة إذا ما توافرتْ الموهبة!