ناهد الأغا
كلما قرأت أقف عند ما يؤثر في مشاعري حتى أحس وكأنه يشدني بعمق لهذا الإحساس، الذي ترجمه الشاعر ومثله الكثير، الذين وقفت عندهم بقراءتي وعزمي على متابعة وتفحص كلماته أعيدها مراراً وتكراراً، أتلمس أبياتها، تارة دمعة، وتارة فرحة هي الحياة هكذا، تستقر النفس وتهدأ رغم ما فيها من الغصات والآلام وجراح بالغة، لإيمانها أن هذا الوقت سيمضي، غير أن المنغصات تجدد لمضي وقت الفرح، فمن سره زمن ساءته أزمان، ونعاتب الساعات والأيام، ولعلها تدرك بإحساسها المتخيل لدينا، حجم الظلال الثقيلة الملقاة على عاتقنا، عشت هذا الشعور عندما وقفت على أبيات قصيدة الشاعر السعودي ناصر القحطاني (الزمان)، وهو يخاطبه كإنسان يُدرك جليا ما يقوله، ويشعر به وبما يجول في خاطره وهواجسه، وما يؤول إليه الحال يا زمان عرّض أهل المبادي للضياع
كيف ترخّص غالي كنوزنا واقيامها
مثلنا ما يستحق المهونه والخداع
ما لبيض وجيهنا منك غير اكرامها
عن شحيحات الموارد فجوج الله وساع
لا تلوم نظاف الأيدي معا من لامها
تمضي السنون سنة تلو سنة
ويعظم داخل النفس شعور يصل إلى حالة زهد بكل الزخارف والمتاع، فلم يعد لبريقها أي مشوق ومحفز، فلقد أطفأت الأيام ذلك الاتقاد، الذي كان مشتعلاً يوماً ما، تعاظم هذا الإحساس الغريب، حينما ترى من اعتلى وتصدر المشهد ممن لم يكن له ذكر في كثير من الأوقات، وكان نسياً منسياً، وفي غياهب الغفلة والنكران، يتقدم بفعل حُسن صنيعك له ورصف الطريق أمامه، وتعبيده إليه، فمن يحيا الكرم يستحيل عليه عدم البقاء على هذه الحال، إيماناً أن الحقيقة ماثلة ولا تخفى على أحد، مهما تعاظم حضور من يطرأ على المشهد، فكريم النفس والسجايا، يبقى كذلك ولا تبدله الحوادث أو الأيام، لكنه رغم ذلك أصبحت المخاوف والحذر تسيطر على تفكيره فمن يُقرصُ من الأفعى يرعبه الحبل الهزيل بمجرد رؤيته، ويُستحضر ذلك في هذه الصورة الفنية البلاغية العفوية البسيطة:
ما يطيب العيش والراس ما عاش ارتفاع
وارتفع بالنفس لو ضامها ما ضامها
كل ما جينا نصافح نصافح باندفاع
مشكلتنا نعطي الناس فوق احجامها
كم صنعنا من جميل مع العالم وضاع
وكم تغير طعمها يوم كف اطعامها
من كثر ما نكرم الوجه ويطيح القناع
كل هقوة طيب صرنا نشدّ حزامها
وقت من يُعطي المرء فيه دون مقابل، ولا ينتظر أجراً أو أي مردود جراء عطائه وكرمه وإحسانه، فمن اعتادت نفسه على الخير والبذل يعيش صراعاً بين جوانبه لأصوات تنبعث من داخله قد تحثه إلى وقف البذل، لكن من شاب على شيء شاب عليه، وتأبى النفس إلا أن تدوم بدرب اختطته وسلكت عليه في حياتها، بل إن الأمر يبلغ لحد لقيمة فُضلى بالعطاء، ومنح ما هو أجود وأنفس وأغلى ما يملكه، دون النظر إلى قيمة العطاء، ولمن سيكون هذا البذل والكرم من نصيبه، وتمثل ذلك في الأبيات:
ما تعيش قلوبنا الطيبه بين السباع
لو سلمنا من جشعها وجور احكامها
البنادم دايما داخله كم من صراع
بين رغبات من الصعب فك خصامها
اعتبرناها مع الوقت سجه واجتماع
وابتسمنا لليالي وسود أيامها
جابنا الله في طريق العطاشى والجياع
نختصر مشوار الأعمار خلف أحلامها
نذبح سمان المعاريف من دون انتفاع
لا نشدنا عن يمنها ولا عن شامها
وفي نهاية الجولة عبر أشرعة (الزمان) سواء أكان تلك القصيدة الجزلة أم الوقت فإنه يجدر بي بعد أن رأيت وأدركت قيمة جمال العطاء وما يثور في نفس المعطي من مشاعر وأحاسيس، وأمنيات أن يلقى أثر ذلك ولو معنوياً من لدن من كان يجود عليهم، فكم أدرك جمال من أعطى حباً ووداً وعطفاً وحناناً، فسقى القلبَ والنفس أحسن الأثر ما كان له جبرعظيم، أن أشكر بجزيل شكر والعرفان، لمن أعطى بمداد قلبه ونبض فؤاده، ما كان طباً ودواءً للنفوس،
وجاد علينا بأعذب المعاني وأجمل حكايا
النفس قدم لماجوبنا مثل مقدام الشجاع
لا تلّفت والعفيفه تطش لثامها عاضنا
في درهم الحكي قنطار استماع
نشتري به ضيقةٍ في طريق اعدامها
إن عجزت تساعد الناس قدر المستطاع
القلوب احذر تكون السبب بآلامها
ما بقى لكفوفنا غير تلويحة وداع
لو تعوّد.. لا وراها ولا قداّمها
وما أجمل تلويحة الوداع من يد مُحبة، مُدت للوفاء والمودة، تبقى محفورة في عالم الذكريات المتسع في العقول.