د. علي بن صالح الخبتي
مفهوم الحضارة قديم جداً إذ كان يعني التميز وكان ينظر إلى هذا المصطلح بهذا المعنى.. فعندما كان الناس يشتغلون بالرعي وفي بداية عصر الزراعة كان الذي يحرث الأرض ويزرعها في العصر الزراعي يعتبر متحضراً وماعداه فهو متخلف. ولم يكمن مصطلح «المدنية» معروفاً حتى القرن الثامن عشر عندما بدأت بعض ما كان يسمى حضارات تنهار أطلق عليها «المدنية» كانتقاص من الحضارة وذلك عندما رأوا تحولها إلى المادة والتقاء تلك الحضارات بالجانب المادي فقط. وهذا يعني أن أي حضارة تركز على المادة تنتفي منها صفة الحضارة كما سيأتي تفصيله لاحقاً. ومن هنا بدأ التفريق بين «الحضارة» و»المدنية» وبدأ المفكرون وعلماء الإنثروبولوجي البحث في مفهوم الحضارة ورأوا أن الحضارة لها ثلاث دلالات أو ثلاثة مفاهيم أو ثلاثة مكونات أو ثلاثة محددات هي:
المفهوم الأول: المفهوم القيمي: ومن هنا تعتبر القيم واحدة من أهم ما يميز الحضارات.
المفهوم الثاني: التقاليد الحضارية التي تبني المجتمع Traditions: وهذا يعني الأنظمة التي تتبناها أي حضارة «النظام المالي- النظام السياسي- النظام الاجتماعي» ....إلخ.
المفهوم الثالث: الجانب المادي الذي يضمن آفاقاً مستقبلية تبني المجتمع وتطوره وتستمر في ذلك.
وغياب هذه المفاهيم الثلاثة هو الذي أدى إلى انهيار الحضارات السابقة اليونانية والصينية والفرعونية وغيرها من الحضارات عندما تنكرت لهذه المفاهيم الثلاثة وأصبحت مدنية لا روح فيها وثبت من خلال الانهيار لتلك الحضارات تحولها للمادة، وأنها بهذا التحول لا تستطيع وحدها تقديم الكثير لأنها في الغالب جوفاء وليس لديها أي مستقبل تطرحه.
والغريب في الأمر أن كثيراً من الباحثين والمثقفين يطلقون على المدنيات الحديثة اسم «حضارة» فهم يقولون على سبيل المثال «الحضارة الغربية» في الوقت الذي يجب أن يطلق عليها «المدنية الغربية» لعدم انطباق مفاهيم الحضارة عليها.. وهنا سأقوم بعرض المفاهيم الثلاثة وقياس المدنيات الحديثة بهذه المفاهيم لأثبت بالشواهد والأدلة والأمثلة عدم انطباق مصطلح «الحضارة» على المدنيات الحديثة التي تسمى خطأً حضارات.. وسأسحب المفاهيم الثلاثة على وضع الغرب والشرق المستحدثين الآن لنرى إن كنا نستطيع أن نسميها حضارة أم لا ثم ننظر ماهي الحضارة التي فعلاً نستطيع تسميتها حضارة وهل تنطبق عليها هذه المفاهيم الثلاثة: لنحتكم إلى الشواهد والمحددات لنصل إلى نتيجة يقبلها العقل والمنطق والواقع.
أولاً: المفهوم القيمي: هل الدين يشكل الأساس لدى المجتمع الغربي أو الشرقي المتمدن؟ وهل لديهم قيم سامية مبنية على الدين؟ وهل هم ملتزمون بهذه القيم على أرض الواقع في مماراساتهم وسلوكهم تجاه مواطنيهم والعالم؟ أسئلة مهمة أطرحها هنا وأجيب عليها من الوقع الذي نراه أمامنا في سلوك وممارسات تلك المدنيات.
المجتمع الشرقي المتمدن ملحد والمجتمع الغربي يدين بالديانة المسيحية لكنه غير ملتزم بها.. هو مجتمع مادي والمادة لديه تبرر كل سلوك وكل ممارسة وكل تعامل.. وهنا أركز على السلوك والممارسة والتعامل لا على ما يقوله ويدعيه.. فالقيم التي يعلنها في المحافل الدولية وعبر إعلامه ومؤسساته المختلفة ومراكز البحث التي يدعمها مثل المحبة والمساواة والتسامح كلها تنهار وتتهاوى أمام المادة. فنرى أن المجتمعات الغربية فيها جدل كبير حول المساواة بين طبقات المجتمع المختلفة.. ونسمع أصواتاً كثيرة كل يوم تشتكي من انعدام المساواة ومن السلوك الفظ تجاة بعض طبقات المجتمع.. وهذه نراها واضحةً جليةً في إعلامهم وفي الأفلام السنمائية والمسلسلات التلفزيونية والنقاشات البرلمانية.. وهو واقع معايش في تلك المجتمعات المتمدنة..
ثانياً: المفهوم الثاني: التقاليد Traditions التي يتبناها المجتمع المتمدن: ويعني النظام المالي- النظام السياسي- النظام الاجتماعي». النظام المالي لديه يقوم على الاقتصاد الرأسمالي المادي في كل الأحوال وعيوبه كثيرة منها: توظيف الأموال لصالح الفرد دون مراعاة الصالح العام وظهور الطبقية واستغلال العمال بسبب مبدأ الأسعار الحرة التى يعتمد عليه النظام وتركز الثروة فى أيدٍ قليلة من المجتمع والاهتمام بالماديات على حساب أشياء أخرى وحدوث أزمات اقتصادية حادة وتزايد حجم البطالة وتقييد الحكومات والسياسات أمام الكيانات الاقتصادية الرأسمالية الضخمة والتأثير على القرار السياسى والتحكم فيه مما يؤدى إلى انحياز السياسة لطبقة بعينها وما ينتج عنه من ضعف للخدمات العامة وخصوصاً فى الدول النامية. وبالرغم من حديث البعض عن مميزات هذا النظام إلا أنه يسبب مشاكل وأزمات متكررة ويتضح أن عيوب هذا النظام قد تفوق مميزاته.
النظام السياسي- النظام الاجتماعي «النظام المالي- النظام السياسي-النظام الاجتماعي». الديمقراطية التعددية تبدو اسماً بلا روح فالطبقة الاجتماعية العالية هي غالباً ما تفوز وهو نظام سلطوي.
ثالثاً: الجانب المادي: أي الأمان المستقبلي الذي يحقق استمرار التطور والحياة الكريمة والأمن والاستقرار لكافة الشعوب.
المدنية الحديثة: خاضت حربين عالميين قتل معها الملايين والمدنية الغربية استخدمت السلاح النووي فقتلت الآلاف في اليابان وفي فيتنام ولازالت في كل بقاع العالم. والمدنية الحديثة تتسبب الآن بشكل رئيسي في «الانبعاث الحراري» وليس لديها الرغبة عن التوقف عن ذلك حيث انسحبت أمريكا وهي على قمة المدنية الحديثة من اتفاقية مؤتمر باريس للانبعاث الحراري في عهد الرئيس ترمب وهي والصين 1 و2 الدول المتسببة فيه.. ويقول نعوم تشومسكي «إن 100 مليون نسمة معظمهم من العالم الثالث سيموتون في الـ20 سنة القادمة بفعل الانبعاث الحراري الذي تسببه المدنية الحديثة.
هذه مدنية زائلة لا تنطبق عليها محددات الحضارة الثلاثة. واقول بدون تحيز أن الثلاثة محددات تنطبق على الحضارة الإسلامية الباقية منذ 1445عاماً هي أعظم حضارة في التاريخ لأنها تبني الإنسان والمجتمع ولم تتغير ولم تتبدل في مفهومها وأهدافها..في جوهرها. صحيح أن حركتها ضعفت لكنها باقية لم تتزعزع.
وقد أنتجت الحضارة الإسلامية في القرون الثلاثة مالم تنتجه في عشرة قرون. وإطلاق الحضارة على المدنية الحديثة خطير جداً لثلاثة أسباب:
الأول: إننا وناشئتنا عندما نشعر أننا لا نساير المدنية الحديثة بمعناها المادي نعتبر ذلك «تخلفاً» كما نسمع اليوم وهذا يبعدنا عن حضارتنا الإسلامية.
الثاني: الاندماج نحو المدنية المادية على أنها «حضارة» تزيد حضارتنا ضعفاً.
الثالث: الموقف الوسط بينهما يؤدي إلى الحيرة والتذبذب وقد ينتهي بالتشكيك في حضارتنا.