صفوان بن جريف السلمي
لطالما لعب الغموض (عدم اليقين) دوراً مهماً في الشؤون الخارجية وغالباً ما اسْتُخْدِم الغموض البناء كأحد أدوات التفاوض في النزاعات الدولية. يرتبط مفهوم الغموض البناء بشكل لافت مع مهندس السياسات الخارجية الأمريكية هنري كيسنجر. قام كيسنجر في مؤتمر شنغهاي عام 1972 الذي جمع بين الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية الصين الشعبية بقوله إن الولايات المتحدة تؤكد «أن الصينين جميعهم على جانبي مضيق تايوان يؤكدون أن هناك صين واحداً وأن تايوان جزء من الصين. نرى من خطاب كيسنجر أنه ألغى الخلافات حول من قد يحكم «الصين» « الواحدة ومكّن الولايات المتحدة وجمهورية الصين الشعبية من إقامة شراكة فعلية لتعارض النفوذ السوفيتي في آسيا. أدى هذا الغموض أيضاً إلى غرس درجة من الحذر في جمهورية الصين الشعبية والحكومات في تايوان مما ترك سياسة الولايات المتحدة فيما يتعلق بأي صراع مستقبلي مبهمة. وحتى في الوقت الذي ينبغي فيه لوم كيسنجر لاتباعه الواقعية غير الأخلاقية في السياقات الإقليمية، فإن مغازلته البراغماتية مع مرونة» التأويل مكنته من حقبة من الاستقرار الجيوسياسي. ذكر هنري كيسنجر في مذكراته بأن « الدبلوماسية تتطلب تكيفاً مستمراً مع الظروف المتغيرة, ويجب أن نترك لما لا يمكن التنبؤ به وهو ما يحدث في الشؤون الخارجية الفروق الدقيقة في الخطابات والتصريحات المرونة والغموض هو أحد أهم أدوات الدبلوماسية الأمريكية».
يجد بعض السياسيين والمفاوضين, أن الغموض البناء في السياسات الخارجية بين الدول يقدم فوائد مهمة أولاً: يسمح الغموض للمفاوضين بإيجاد أرض مشتركة بين جميع الأطراف دون التزمات صارمة. ثانياً: يوفر الغموض أيضاً بعض المرونة لإيجاد الحلول من خلال تحفيز كل طرف لتقديم بعض التنازلات. ثالثاً: يمكن للغموض أن يثبت العلاقات من خلال تجنب المواقف الجامدة للأطراف المتنازعة.
ينطوي العمل الغامض في السياسة الخارجية على مخاطر كبيرة، من خلال مساعدة الأطراف الفاعلة جميع بسرعة على توسيع حرية المناورة في الساحة العالمية. ولكن ربما تكون نتائجه عكسية على سبيل المثال, شاهد الجميع إيران أو كوريا الشمالية التي تعرض عليها تنازلات من قبل المجتمع الدولي مقابل تقليل الغموض حول أهداف ونطاق برامجها النووية. يمكن أن يكون الغموض قوة من أجل الصالح العام إذا مُورِس بالتراضي، أي إذا وافقت الأطراف جميعها في المفاوضات على صفقة غامضة إلى حد ما من أجل إنهاء المحادثات على نحو إيجابي وتجنب تصعيد صراعها. يمكن أن تكون الواجبات الجاهزة للممارسين هي ممارسة الغموض مع نظرائهم وتجنب القيام بذلك بمفردهم. ومن الأمثلة على ذلك اتفاقية إعادة توحيد ألمانيا ومعاهدة ستارت الجديدة واتفاقية مينسك بشأن شرق أوكرانيا.
كافحت روسيا من أجل القول في مجموعة من القضايا التي تعتبر ذات أهمية رئيسية لأمنها مثل منع توسيع حلف شمال الأطلسي أو نشر الدفاع الصاروخي الأمريكي أو الثورات «الملونة». لكن لم يستمع أحد، على الأقل وفقاً للرواية الروسية الرسمية. لذلك قرر الكرملين أن إجبار نظرائه على الاعتراف بمكانة روسيا الأعلى عن طريق الإجراءات والمذاهب والبيانات الغامضة قد يعمل بشكل أفضل من إجراء مفاوضات مطولة لمدة عشر سنوات حول كل مجال من مجالات الاهتمام كان رد الولايات المتحدة أكثر غموضاً بإعلان الرئيس السابق دونالد ترامب في عام 2019 بالانسحاب من معاهدة الأسلحة النووية متبعاً سياسة «التصعيد» من أجل خفض التصعيد» التي وقعت في عام 1987.
على مدى السنوات القليلة الماضية، كانت روسيا تلجأ بشكل متزايد إلى الغموض في سعيها للحصول على مكانة أعلى مقابل نظيراتها الغربية وفي المقام الأول الولايات المتحدة تسعى موسكو إلى رفع مكانتها في شكل اعتراف من قبل أقرانها والحق في التصرف بحرية في ظل ظروف معينة. على سبيل المثال، قد يدرك الأقران أن الوضع لا يسمح لروسيا باستخدام حق النقض ضد توسيع تحالف الناتو. وعلاوة على ذلك قام الرئيس الروسي بتغير العقيدة النووية لروسيا وأضاف بأن عقيدة استخدام السلاح النووي ليست فقط الرد على أي ضربة نووية توجه ضد روسيا بل إن السلاح النووي سيُسْتَخْدَم في حال أن هنالك تهديداً ضد الوجود الروسي كدولة. هنا تترك روسيا العالم في حالة غموض لتقدير درجة المعنى من الوجود الروسي كدولة وما هي الخطوط الحمراء التي يجب التوقف عندها لكي لا يصل المجتمع الدولي لصراع الأسلحة النووية.
في الواقع، يمكن للمرء أن يجادل بشكل أوسع بأن العناصر الرئيسية للنظام الدولي القائم على القواعد الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية كانت قائمة بصورة عملية على تقبل براغماتي للغموض، حيث يمكن لمثل هذا الغموض أن يُسهّل عملية الاستجابة للتغيرات في الأمن والأساسيات الاقتصادية. على سبيل المثال، عوضا عن نظام المعيار الذهبي الكلاسيكي الذي أدى إلى تفاقم الضغوط الاقتصادية الانكماشية خلال العقود التي سبقت الحرب، كان لسعر الصرف الثابت لإطار عمل بريتون وودز الكينزي مكوناً معيارياً، يعكس التزام المشترك بالتعاون لتحقيق زيادة الطلب والنمو. حتى عندما اعترف بأن اختلال التوازن الأساسي في أسواق أسعار الصرف» قد يجبر على خفض قيمة العملة ونتيجة لذلك تدخل الدولة في نفق التضخم القاهر، ظلت هذه المعايير نفسها غامضة، مما وفر لصانعي السياسات مجالاً من التقدير في جهودهم للحفاظ على النمو. وبهذه الطريقة، سعى صانعو السياسات إلى إدارة الغموض وليس القضاء عليه بطريقة يمكن أن تخفف ضغوط الأمن أو الاقتصاد.