د. تنيضب الفايدي
عُرّفت خليص في المصادر العلمية بأنها وادٍ على طريق الحجاج، وهي من أخصب أودية الحجاز على الإطلاق، وتعتبر من أهم الأجزاء المكونة لوادي أمج الكبير، الذي هو أحد أودية الحجاز الخصبة الشهيرة العامرة بالسكان، تقع خليص في قلب الحجاز شرق طريق الهجرة النبوية بين مكة والمدينة، وهي إلى مكة أقرب، يحفّ به من الغرب جبلا جمدان، ومن الشمال حرة الخليصية، ويصب فيه من الجنوب وادي غُران، يقول الحموي في معجم البلدان (2/442): «حصن بين مكة والمدينة». وقال السمهودي في وفاء الوفا (3/171): «خليص عين ابن بزيع غزيرة كثيرة الماء، عليها نخل كثير وبركة ومسجد لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-».
وكانت خليص إحدى المراحل المهمة في طريق الحجاج، وهي من أكبر المحطات على هذا الدرب، إذ يلتقي فيها دربا الحاج المصري والشامي، فهناك طريقان للحج، أحدهما يأتي من الشام، والآخر يأتي من مصر، يصلان إلى المدينة، ومنها إلى مكة المكرمة عبر طريق مكة المكرمة والمدينة المنورة القديم، قد سلك الحاج القادم من مصر خلال الفترة الإسلامية المبكرة طريقاً آخر يصل إلى مكة المكرمة مباشرة عُرف بالطريق الساحلي، وهو يسير بعد مدين بموازاة الساحل، حتى يصل إلى حدود منطقة مكة المكرمة في الرايس، ومنها إلى مستورة، ثم ذي الجحفة، وفي ذي الجحفة تلتقي كل الطرق القادمة من المدينة المنورة مع هذا الطريق، حيث الميقات، ثم تسير كلها إلى رابغ، ثم عسفان، ثم خليص، ثم وادي فاطمة، فالتنعيم، ثم الزاهر، فمكة المكرمة. الملامح الجغرافية لدروب الحجيج للسيد عبدالحميد (ص75). ولذا لها شرفٌ في خدمة الحجاج منذ القِدم، فكان الحجاج يستريحون في خليص بعد عناء شديد، ويتخلصون من أتعاب السفر ومشقته، كما يشعرون بقربهم من مكة المكرمة، ولعلّ هذا السبب يكمن وراء تسميتها بهذا الاسم -وإن كانت هناك آراء أخرى- فخليص تصغير خلص وهو الخلاص، حيث يخلصون المارّين في خليص من عناء السفر، وهناك قرية يطلق عليها خلص جنوب المدينة المنورة، ونظراً للمشقات والصعاب التي تقابل الحجاج والزوار وطول المسافات فإنهم قد يطلقون أسماء على القرى التي تقترب من مكة المكرمة أو المدينة المنورة مثل: خليص بمكة المكرمة ومفرّحات بالمدينة المنورة، يقول الشاعر:
ومنها في الرُّبوعِ بَدَا خُليصٌ
خلَصنا فيه من كلّ العِنادِ
وأصبحت خليص أحد معالم الحضارة، وأحد منابع الإلهام وموجبات القول عند الأدباء والشعراء،حيث تناول الشعراء خليص وواديها في أشعارهم، فقال الشاعر أحمد بن أبي حجلة يصور المنطقة:
حثثنا المطايا من خليص عشية
وطرفي إلى أفق السماء ترددا
ولما بدا فيه الهلال لناظري
ذكرت جبين العامرية إذ بدا
وقال شاعر آخر:
يقولُ سائقُ ركبي
ولاتَ حِينَ مَنَاص
لقد بُلينا بدرب
بَطُولِ يَوم القصاص
فقلتُ: جيء بِي خُليصاً
وابشِر بِحُسن الخَلاص
وقد ذكر الحربي خليصاً، وهو من أهل القرن الثالث الهجري، (صاحب كتاب المناسك وأماكن طرق الحج ومعالم الجزيرة) عندما عدّد مراحل الحج بين مكة والمدينة، حيث يقول في (ص216): «من قديد إلى خليص عين أبي بزيغ التي تبعد سبعة أميال وكانت عيناً ثرية، عليها نخل وشجرة». كما ذكرها الأندلسي فيقول: «إن الحجيج يمرون بعد بلدة قديد بسبعة أميال في اتجاه الجنوب على عين غزيرة المياه، كثيفة النخل والمزارع وتسمى هذه العين بعين أبي بزيغ».
واشتهرت محافظة خليص بأوديتها الكبيرة مثل وادي خليص، ووادي غران، و وادي قديد، و وادي أبو حليفاء وغيرها، وكذا بعيونها الغزيرة، حيث كتب أحد المؤرخين بأن خليص كانت فيه حوالي 90 عيناً، فكانت خليص تعتبر من أبرز المناطق الزراعية، وقد وصف تلك الصفة كثيرٌ من الرحالة حيث وصف الجزيري خليصاً وقد زار في عام 955هـ قائلاً في المناسك (ص216): «ومنزلُ خليصٍ فضاء واسع كثير الأنس، وبه حصن على جبل، ومزروعاتٌ وخُضرٌ وبطيخ وبعض كرم، وأشجار ليمون، وبه الأغنام والحشيش لعلف الجمال.. ولهذا فإن خليصا المقبل والمراح فعم برها وصلاحها وتزود من وصبها وصيبها ما لاح عليهم فلاحها، ومنح الله تعالى بها وفده من عينها الصافية دلالا غدقاً ومن أعنابها وبطيخها ما طاب غذاء وحسن مرتفقا». كما عدد معها مجموعة من محطات الحجاج حيث قال:
ثم قُديد بعدُ يا رفيقي
من بعدها ترقى إلى السويق
وفي خليص سر ولا تعرج
من بعدها تأتي إلى المدرج
منه إلى عسفان ثم المنحنى
وبطن مرٍّ بعدها نيل المُنى
قال:
وأرض خليصٍ حبذا ذاك منزلاً
به بلغت كل النفوس مُناها
وفي بطن مرٍّ قد نزلنا عشية
ومن مكة لاحت بروق سناها
ووصف الورثلاني في رحلته (ص308) خليصاً فقال: «ويكثر الماء في عين خليص بوفرة عظيمة، وقال: إن فيها بركة ماء كبيرة يغرق فيها من لا يحسن السباحة، ومنها تخرج السواقي للأرض المحروثة». كما ذُكِر في تلك المسافة مسجدان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أحدهما عند حرة عقبة خليص، والآخر عند البئر المسماة بخليص، كما يوجد في أحد الجبال المطلة على هذا الوادي من الناحية الشمالية الغربية الكثير من الصخور التي نفذت فيها نقوش ثمودية، وأخرى من صدر الإسلام، إضافة إلى الرسوم، وأشكال حيوانية متنوعة.
ويقول العبدري في رحلته إلى جزيرة العرب في عام 688هـ (ص167): «وخليص قليعة منيعة على شرف مرتفع، وبها نخل كثير، وماء جار طيب، وصاحبها من الشرفاء استبد بها، وهو رجل صالح محب للحجاج مكرم لهم، وإذا نزل الركب تلقاهم، وأحسن مثواهم، والعربان تقيم في خليص سوقاً عظيماً تبيع فيه المواشي والخضار والبطيخ».
وفي عام 1320هـ كان إبراهيم باشا أميراً للحج المصري، ولقد وصف لنا في طريقه إلى المدينة وهو ذاهب من مكة حيث قال: «وخليص محطة صغيرة في الطريق بين مكة والمدينة» ولا يوجد بها إلا بئر واحدة وبجوارها خوران كبيران أحدهما الدف والآخر النتوجه (النتوقة).
وقد ذكر العياشي خليصاً في رحلته للحجاز (1/234) حيث يقول: «فبلغنا إلى خليص عند المغرب، ونزلنا به، وفيه عين ماء تجري، وأبنية وقهاوي، وسوق، وقد سيق الماء في قنوات محكمات من العين، يفجر عنها في مواضع للسقي والوضوء، إلى أن خرج الماء إلى بركة عظيم تحت القرية، ولم أر أحلى منها ولا أعظم، يغرق فيها من لا يحسن العوم، ويخرج الماء من البركة إلى مزارع قريبة من البلد. وبات الناس بجانب هذه البركة في أرغد عيش بسبب الماء الحلو الغزير وسقوا واستقوا وتوضأ وبلا كلفة في ذلك ولا مشقة».
ومما لفت نظر العياشي في هذه الرحلة، الطريقة التي يتبعها أهالي بلدة خليص في سقي مزارعهم، حيث كان يساق الماء في قنوات محكمات من العين تنفجر في مواضع للسقي.. إلى أن خرج الماء إلى بركة عظيمة تحت القربة، ثم يخرج الماء من البركة إلى مزارع قريبة من البلدة، كما تحدث العياشي عن تربية المواشي في بلدة خليص فقال: «إن بها مجموعة من المواشي لقبيلة زبيد التي تنتقل في البادية من مكان إلى مكان بحثاً عن الكلأ والماء لمواشيها».
وأضاف عبدالقدوس الأنصاري في تاريخ العين العزيزية (ص209) أنه عند الحرة مسجد لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فيكون حينئذ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تلك المسافة مسجدان: أحدهما عند حرة عقبة خليص، والآخر عند البئر المسماه بخليص.
والمسجد المشار إليه، مستطيل الشكل، وهو مبني بالحجارة وبالنورة البلدية وبالطين، والنورة طلاؤه من داخله وربما من خارجه أيضاً، وقد تنصل داخله وخارجه من النورة، وبقيت الحجارة ماثلة للعيان، وله محراب متجه إلى الكعبة، وبجانب محرابه رف صغير، ربما يوضع به المصباح الذي يستضيء به الإمام في صلوات الليل.
أما اليوم فخليص محافظة عامرة، بها عددٌ من المراكز، بالإضافة إلى كثير من القرى والهجر، وفيه الكثير من الدوائر الحكومية.