د.محمد بن عبدالرحمن البشر
سلطان العاشقين أحد ألقاب عمر بن الفارض الحموي، من بني سعد، الذين منهم مرضعة رسول الله صلى الله عليه وسلم حليمة السعدية، شاعر صوفي مشهور، ومازلت أذكر شارعاً بالقاهرة باسمه، قدم والده الشافعي المذهب إلى مصر من حماة بالشام، في زمن حكم الأيوبيين، وقد كان مسؤولاً عن فرائض النساء، أي حقوقهن في التركة، وحقوقهن العامة، ولهذا سمّي بابن الفارض، وهناك علم شرعي اسمه علم الفرائض، ويحتاج إلى حلول حسابية، يحسنها من يملكون عقلية رياضية علمية، وعلى ذكر الفرائض فإن الشيخ عبداللطيف بن إبراهيم آل الشيخ، الأخ الأصغر للشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية في زمانه، رحمهما الله جميعاً، من أكثر الناس قدرة وسرعة فائقة في حل مسائل الفرائض، وهذا معروف عنه رحمه الله، ونعود لوالد ابن الفارض، فبعد مسؤولية الفرائض للنساء، عرض عليه السلطان الكامل الأيوبي منصب قاضي القضاة بمصر، وهو منصب كبير جداً، لكنه اعتذر عن ذلك وآثر الانصراف إلى التعلم، والتعليم، والتبتل، والعبادة في الجامع الأزهر، وترك الدنيا وزخرفها، والتي كانت بين يديه بحكم علاقته مع الأيوبيين، وتقريبهم له، ورفعهم لمنزلته، وطلبهم بركته كما يزعمون.
ولد سلطان العاشقين عمر بن علي بن مرشد الحموي الملقب بابن الفارض في القاهرة عام خمسمائة وستة وسبعين، وأسرته ميسورة، فلم يكن بحاجة إلى السعي وراء لقمة العيش، لهذا انكب على طلب العلم، فقد درس القانون بادئ أمره، ربما لأن والده كان مدافعاً عن حقوق النساء، غير أن والده صرفه إلى دراسة العلوم الشرعية، فتتلمذ على يدي عدد من علماء عصره، ومنهم ابن عساكر العالم الشافعي المشهور، كما قال المنذري، ولم يكن هذا الشاب راغباً في عيش الرفاهية المتاح له، ولم يطمح إلى تقلد مناصب عليا مع مكانة والده لدى الأيوبيين، وأثناء دراسته كان يسيح في أماكن سكنى الفقراء، في وادي المستضعفين بالمقطم، يستريح إلى لقائهم والحديث معهم، ومشاركتهم معيشتهم، وبدأ يأخذ منحى التصوف، وتتوق نفسه إلى بلوغ أعلى درجاته، وذات يوم رأى ابن البقال الصوفي التقي يتوضأ بغير ترتيب، فأراد أن يرشده إلى طريقة الوضوء، فالتفت إليه، وقال يا عمر: هذا ليس مكانك، فاذهب إلى مكة، لكن كيف له أن يذهب إلى هناك، والموسم ليس موسم حج، لكنه وجد طريقه للوصول إلى هناك، وكان في العقد الثالث من عمره، وسكن في أوديتها معتكفاً متبتلاً متفكراً، لا يخالط أحداً، خمسة عشر عاماً، ينتظر الفيض الإلهي، أو الفتح الإلهي، كما يعتقد بعض أهل التصوف، وكان له ما أراد، وكان يصلي في الحرم الشريف، وقد نسجت حوله بعض المعجزات أو الأساطير، مثل كونه كان يقطن في أودية تبعد عن الحرم الشريف مسيرة عشرة أيام، ومع هذا فهو يصلي في الحرم جميع الفروض، وهذا لا يمكن تصديقه، كما أن الكثير من الناس قد أشاعوا حوله أساطير كثيرة نقل لنا سبطه بعضاً منها.
أسئلة كثيرة طرحت حول فلسفته، ومذهبه، ومن ذلك حقيقة إيمانه بوحدة الوجود، كما فعل معاصره الصوفي المشهور ابن العربي، أو أنه يؤمن بوحدة الشهود، أو أنه لا يؤمن بأي منها، وإنما عشقه الإلهي الظاهر في معظم شعره جعلنا نعتقد ذلك، لأنه لم يخلف لنا سوى ديوان شعره غامض المعاني، وصعب المفردات، بخلاف ابن العربي الذي ترك كنوزاً من المؤلفات جعلتنا نطل من خلالها على فلسفته ومعتقده يقول في دائيته:
يا سميري رَوّحْ بمَكّةَ رُوحي
شادِياً إنْ رَغِبْتَ في إسعادي
كان فيها أُنسي ومِعْراجُ قُدْسِي
ومُقامي المَقامُ والفتحُ بادِ
لقد ذكر المعراج والفتح، وأنا لا أشك أنه ذهب إلى مكة طلباً للفتح أو الفيض الإلهي، وهذا أمر مألوف عند من يطمع في مقام خاص عند المتصوفة، لاسيما في زمن الأيوبيين الذين تبنوا النهج الصوفي، وقربوا الصوفية، وكانوا يشاورونهم في الأمر، وهذا قد لا يخلو من طرف سياسي خفي، لأنهم جاؤوا بعد الفاطميين، الذين هم أصحاب فكر مختلف.
في شعر ابن الفارض غموض في المعنى والمقصود، و مثال ذلك قوله:
أُخفِي الهَوَى وَمَدَامِعِي تُبْدِيهِ،
وَأُمِيتُهُ وَصَبَابَتِي تُحْيِيهِ
وَمُعَذِّبِي حُلْوُ الشَّمَائِلِ أَهْيَفٌ،
قَدْ جمعتْ كلُّ المَحَاسِنِ فِيهِ
فكأنهُ فِي الحُسْنِ صُورَةُ يوسفٍ،
وكأنني فِي الحُزنِ مِثْلُ أبيهِ
شعر جميل، لكن لا يمكن لصوفي مثل ابن الفارض أن يقول ذلك في فتاة، وإنما قد وارى في ذلك، وقد يقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي قال فيه أجمل القصائد التي يتغنى بها معظم الصوفيين حتى يومنا هذا.
وأخيراً، وبعد أن غادر من مكة بعد أن أمضى بها خمسة عشر عاماً، عاد إلى القاهرة، بعد أن نال الفيض الإلهي كما يدعي، وذات مرة حاول السلطان الكامل زيارته، فهرب، فهو لم يزر مسؤولاً أو يزوره رغم تقدير السلطان له تقديراً كبيراً، ومات بعد عودته بأربع سنوات، بعد أن كتب، وأملى ديوانه.