أ.د.عبدالله بن أحمد الفيفي
قال (ذو القروح)، وهو ما ينفكُّ يشدُّ شَعر رأسه، كأنَّما يَصعَّد في السماء:
- لا أرى أَنْوَكَ ممَّن يؤرِّخ للتراث العَرَبيِّ الإسلاميِّ بالتاريخ المسيحي. ولئن تفهَّمنا ذلك من مستشرق، فكيف نفهمه من عَرَبي؟ سِوَى على وجهٍ أعمى من الاستلاب؟ ولاسيما وهو يؤرِّخ للتراث الإسلامي؟!
- أمَّا الاستلاب للآخَر في عصرنا هذا، فحدِّث ولا حرج! أنت تجد نفسك في قلب الجزيرة العَرَبيَّة وكأنك في (نيويورك) أو (لندن)! لا أقصد في الحضارة، ولكن في اللغة؛ فالإنجليزيَّة هي لغة الجزيرة العَرَبيَّة اليوم. لكأنَّ العَرَب بلا هويَّةٍ ولا لغةٍ، وإنَّما هم ببغاوات، غاية وسعهم أن يُحاكوا أصوات الآخَرين!
- ذلك هو الاستعمار!
- الاستعمار؟
- نعم! غير أنه لم يعُد الاستعمار بالجيوش، بل بالعقول، واللُّغات، والأسواق، والهُويَّات. استعمارٌ أفظع من الاستعمار التقليديِّ العتيق. وذاك هو «الغزو الداخلي»، الذي عبَّر عنه الشاعر (البَردُّوني):
غُزاةُ اليومِ كالطَّاعون
يَخفَى وهْوَ يَستشري
تَرقَّـى العارُ مِن بَـيْـعٍ
إلى بَـيْـعٍ بِـلا ثَـمَـنِ
ومِن مُستَعمِـرٍ غــازٍ
إلى مُستَعمِـرٍ وَطَنِـي!
- مَن ذاك الذي قصدتَ بأنَّه يؤرِّخ للتراث العَرَبيِّ الإسلاميِّ بالتاريخ المسيحي؟
- هُمُ كُثْرُ! تقف على نموذجٍ منهم، مثلًا، لدَى محقِّق «رسالة ابن فضلان»(1)، حيث يقول في مقدِّمة تحقيقه: «وما أشرق القرن الثامن للميلاد حتى كان للعَرَب مُلْكٌ فسيح الرُّقعة في إمبراطوريَّةٍ عريضة...»! فلا يشفع التاريخ الهجري بالميلادي، وذلك أضعف الإيمان، مع أنه يكتب عن العصر العبَّاسي! أَ وَلَم تكن لذلك المُلك الفسيح هُويَّة؟ ولا لتلك الإمبراطوريَّة تاريخ؟!
- (إذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ، وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم ما لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ، وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا، وَهُوَ عِندَ اللهِ عَظِيمٌ).
- صدق الله العظيم. ما وردَ في الآية، في شأن الإفك، يَصدُق على كلِّ إفكٍ من القول، بما في ذلك الإفك اللُّغوي، أو الحضاري، ممَّا يستخفُّ به السُّفهاء، وأثره عظيم، إنْ على المدَى القريب أو البعيد.
- تلك عُقدة الغالب، التي تحدَّث عنها (ابن خلدون). وبالأمس كان الغرب يحاكي الشرق، ويحذو حذوه، حتى بلغ الأمر ببعض نسائه، وربما رجاله، إلى تعريض الأجساد للشمس، لتكتسب سُمرةً كسُمرة البَشرة العَرَبيَّة!
- مسكين (ابن خلدون)، لم يعاصر مسخ زماننا في التقليد للآخَر، وإلى درجةٍ مزريةٍ من النزوع نحو العبوديَّة! ثمَّ إنَّ هذا لم يَعُد في الأوساط الشعبيَّة، بل هو في النُّخَب، ولدَى مَن يدَّعون العِلم والثقافة والاستنارة.
- بل هو بين هؤلاء أشدُّ وأنكَى.
- على ذِكر (ابن خلدون)، لقد كان يناقش صُوَرًا شتَّى من التبعيَّة والاستلاب العقلي والإنساني.
- مثل ماذا؟
- مثل تأليه البَشَر، واعتقاد بعض الفِرَق الإسلاميَّة، كـ»الغُلاة» و»الواقفية»، أشياء في بعض أئمتهم تُشبِه التأليه؛ فإمامهم في السحاب: الرعدُ صوته، والبرق سوطه(2)، وكأنَّه مسيحهم الثاني، مؤتمِّين فيه بما نشره اليهوديُّ (بولس الرسول) من عقيدةٍ في (يسوع).
- بل ربما تجاوزوا، غلوًّا فيه وفي ذُريته، ما قاله بولس في (المسيح)!
- كما ستجد من الطائفيِّين، في هذا المضمار، مَن جعلوا هِجِّيراهم نبش تلك القبور، وأنفقوا أعمارهم في نهش ساكنيها، وتصنيف الكتيِّبات فيهم، باسم البحث التاريخي، وتصحيح صفحاته. وهم لا يفعلون ذلك أكاديميًّا، بل ينتفشون به إعلاميًّا وجماهيريًّا. وهؤلاء يُهدِرون حيواتهم في عِلْمٍ- بزعمهم- هو الجهل بعينه والجاهليَّة بسحنتها، إثارةً لعامَّة الناس بنعراتٍ طائفيَّة، طوَّافين بأصنام الماضي، للتذكير بما جرى فيه، لكيلا يلتئم للأُمَّة جرحٌ، ولا يُنسَى لها ثأر.
- سَكَنَة كهوف التاريخ جميعًا هم شرُّ البَريَّة على مستقبل الأُمَّة.
- هم كذلك. ولقد شَجَرَ بين الأُمَم، ونَشِب بين فئاتهم وتيَّاراتهم من المذابح والمحارق والخوازيق، ما لا يُقارَن بما جرى في تاريخ الأُمَّة الإسلاميَّة، مهما قيل فيه. ولو أنَّ تلك الأُمم ضلَّت (بالضاد) تجترُّ ماضيها التاريخي، وتشحن الحاضر به، وتستعيد ما نَشِب فيه، لتصفية ثاراتٍ مجنونة، ما تقدَّمت خطوة إلى الأمام.
- تخيَّل لو أنَّ (اليابان) بقيت تصيح: «لبيك يا هيروشيما!».. «يا لثارات نجازاكي!»، مقيمةً طقوس بكائياتٍ، وصرخات تلبيات، أين كان موقعها اليوم؟!
- بين رفات هيروشيما ونجازاكي! وكذا لو أنَّ (أوربا) ظلَّت تدور في فَلَك ما نَشِب في العصور الوسطى، أو حتى في تاريخها الحديث إبَّان الحربَين العُظمَيين، وتُدير المناظرات المتلفزة بين الحلفاء والنا زيِّين، على طريقة السُّنَّة والشِّيعة، لكانت مثار سخرية العالَم، ولبقيت مِثلنا تدور في أتون صفِّيناتها.
- مع الأسف، اجترار حماقات التاريخ لا تراه إلَّا في الرؤوس العَرَبيَّة، والرؤوس العَرَبيَّة قديمة عهدٍ بالفاليات!
- أنت تجد الساعةَ مَن لا يفتأ يغرِّد في «إكس- تويتر سابقًا»، وينشر على «الفيس بوك»، لا لشيءٍ إلَّا لنكأ الجروح، وتذكير الناسين، وتصديع الأُمَّة، وتأليب بعض الناس على بعض!
- ووسائط التواصل المعاصرة نفسها تُسهم في ذلك.
- هي بدَورها مِنَصَّاتٌ مُسيَّسة. خذ على سبيل المثال (مِنَصَّة تويتر/ إكس لاحقًا)، التي تُثبِت باستمرار أنها مِنَصَّة مزاجيَّة، بلا معايير مفهومة، ولا حُريَّة منضبطة. وإنما تُسلِّط شعارها الهُلامي: «المعايير»- في ذريعةٍ غير صادقة، أو في أحسن الأحوال غير منصفة- لتطبِّق عقوبات ما تزعمه من «انتهاك تلك المعايير» غير المحدَّدة، إن وُجِدت أصلًا.
- ولا يُنذَر بها «المنتهِكون»، إنْ وُجِدوا أصلًا، قبل قفل حساباتهم أو تعليقها.
- ذلك لكي تُقصي مَن تشاء، وتؤوي إليها مَن تريد! وهي تفعل ذلك متى شاءت، وحسب أحوال الطقس العامَّة، وبلا أسباب معلومة، ولا احترام لمستخدميها.
- يا (ذا القُروح)، حتى (دونالد ترمب) لم يَسلَم من تقلُّبات مزاجها!
- بالطبع! صحيح أنَّ الرَّجل كان أهوج، لكنَّه لم يجاوز ما تتشدَّق به المِنَصَّة من حُريَّة التعبير. فلمَّا جاء حذف حسابه في حَزَّةٍ تُكسِب المِنَصَّة صيتًا، فعلت به ما لم تكن لتفعل في طقسٍ آخَر. وإلَّا كم من الحسابات المروِّجة للعنف، والمخدِّرات، والجنس بأشذِّ صوره، ووسائل الإجهاض، إلى غير ذلك من الموادِّ غير الأخلاقيَّة ولا الحضاريَّة، ومع ذلك تجد ترحيبًا مستمرًّا، وربما حماية خاصَّة! ولا يُعترَض عليها بأنها «تنتهك معايير مجتمعنا!» والشاهد هنا أن مِنَصَّات التواصل الاجتماعي الشَّعبيَّة تَستغِلُّ وتُستغَلُّ أسوأ استغلال. ومن ذلك: الاستغلال في تأليب المجتمعات، بعضها على بعض.
- عالَـمٌ يخاف ولا يختشي! ولو وُجِد المنافس لتحسَّن الحال.
- أجل، وهذه الحال في كل مجال. لو وُجدت مِنَصَّات عالميَّة، ونَشِب التنافس بينها، لرأيت تحسُّنَ الحال، ولطارت تتبارى لتخطب ودَّ المستخدمين بشتَّى الطرق، ولكانت المعايير معلنةً وصادقة.
- دع عنك هذا! وبعيدًا عن استغلال وسائل التواصل تلك، ألا ترى أنَّه لا يَصلُح حاضرنا حتى تُصفَّى الحسابات التاريخيَّة أوَّلًا!
- لا، لا أرى! غير أنَّك سترى بعضهم يَفْهَق حياته ساذجًا صادقًا في مَرْكَضِه في هذا المضمار، وآخَرين كذبوا وكتبوا حتى صدَّقوا أنفسهم، وثالثة أثافيهم ممَّن اتخذوها تجارةً إعلاميَّة رائجةً، في بيئةٍ فارغة العقول، عاطلةٍ من الإسهام الحضاريِّ الحي. ونحن بذلك، دون عقلاء العالَم، نوظِّف التاريخ لخراب الحاضر والمستقبل، بل والماضي أيضًا. مآسي التاريخ تَدفع الأقوام إلى التوحُّد، والاتِّعاظ من الأخطاء، ومداواة الأدواء، ونحن تَدفعنا مآسي التاريخ إلى تحويلها إلى أفلام هنديَّة، نلعب فيها جميعًا أدوار البطولة!
** ** ** **
(1) (1960)، رسالة ابن فضلان، تحقيق: سامي الدهان، (دمشق: المطبعة الهاشميَّة)، 14.
(2) يُنظَر: ابن خلدون، (2001)، مقدمة ابن خلدون، تحقيق: درويش الجويدي، (صيدا- بيروت: المكتبة العصريَّة)، 184- 185.
** **
- (رئيس الشؤون الثقافيَّة والإعلاميَّة بمجلس الشورى سابقًا- الأستاذ بجامعة المَلِك سعود)