أحمد بن عبدالله الحسين
أطياف حديث جمعتني مع صديق كان محورها عن الآراميين وسرديتهم التاريخية وكذلك جدلية لفظة الساميين. دفعني هذا للكتابة وتلخيص ذاك الحوار. الآراميون هم أقوام توطنوا أعالي جزيرة العرب، وفي عصور متعاقبة كان سكان الفيافي هم الساميون الذين ينحدرون من نسل سام بن نوح يتسربون تترى إلى المدن المجاورة لهم فيتحضرون. روايات التاريخ أنه في المائة الخامسة عشرة قبل ميلاد المسيح حصل تدفق لموجات من الآراميين إلى أنحاء الهلال الخصيب فنزلوا قلب سوريا، ثم انساحوا إلى ضفاف الخابور ومجاري الفرات. كانت الصحراء السورية منذ أقدم العصور اِمتداداً طبيعياً لشبه الجزيرة العربية التي هى الموطن الأصلي للساميين.
يذكر العهد القديم سفر التكوين؛ أن الآراميين من نسل آرم خامس أنجال سام بن نوح. والمعروف تاريخياً أن الآراميين لم يؤسسوا مملكة موحدة، كما أنهم لم يفوزوا بنفوذ واسع كالأشوريين والفُرْس والمصريين.
برع الآراميون في فنون المتاجر خصوصاً البرية مقابل احتكار الفينيقيين (كنعانيون) وهم ساميون تجارة البحر. اقتبس الآراميون من الفينيقيين الحروف الأبجدية وتعلموا من سكان مصر الكتابة بالحبر والقلم وسطروا بها عقودهم وصكوكهم التجارية فتغلبت كتابتهم على الكتابة المسمارية آنذاك، وهي كتابة أشور وبابل، ومن هنا برع الآراميون فأصبحوا في الوظائف الكتابية والمناصب الإدارية في دواوين المملكة الآشورية وكذلك عند مملكة الأخمينيين في فارس.
تنصر آراميو بلاد ما بين النهرين أي دجلة والفرات، وذلك في غضون المائة الأولى ميلادية وخصوصاً سوريا، فتركوا اسمهم القديم وأسموا أنفسهم سريانا تمييزاً لهم من الوثنيين. وقد استحسنوا هذه التسمية لأنها جاءتهم من كلمة سورييا الآرامية ومعناها نصراني.
اللغة الآرامية وهي قريبة إلى العربية والعبرانية، تغلغلت وأصبحت دهوراً اللغة الرسمية والتجارية للأمم الحية في القرون الأولى قبل الميلاد في بابل وآشور وفارس ومصر وفلسطين، وتعلم اليهود هذه اللغة في منفاهم في أرض بابل وكتبوا بها كتاباتهم للعهد القديم الدينية وآدابهم.
اللغة الآرامية السريانية أوائل القرن الثامن ميلادي بدأ يتقلص ظلها لدى تمازجها باللغة العربية، ودبَّ الضعف في جسمها وغادرت على تعاقب الزمن أكثر المدن، واعتصمت بالقرى والجبال فلابستها ألفاظ الشعوب القاطنة في العراق وكردستان وسوريا وبلاد العجم، وبقيت فصحى الآرامية في مأوى الكنائس، وغرف المدارس اللاهوتية. ولولا أنها لغة طقسية لخمس طوائف من النصارى الشرقيين (الكلدانيون، النساطرة، السريان، الموارنة، اليعاقبة)لاضمحلت من الوجود.
اللغة العربية أخذت من اللُّغة الآرامية عديد ألفاظ، دخلت في عصور مختلفة من الآرامية وذلك في التجارة والزراعة وألفاظ الصناعة والمعادن والحياكة والصباغة والطب والصيدلة والفلك. بل كان الآراميون في كثير من الأحيان الوسيط في توصيل الدخيل اليوناني واللاتيني إلى اللغة العربية، وأثر أُسلوب المترجمين الآراميين السريان على تركيب الجملة وصياغتها في العهد العباسي وما يليه وهذا معلوم عند الباحثين.
هنالك جدلية ووجهة نظر تطال لفظ الساميين على الأقوام، بمن فيهم الآراميون، الذين سكنوا الجزيرة العربية لأن استعمال لفظة سامي أو سامِيَّة يرجع لعام 1781م حينما ابتكرها اللغوي المستشرق الألماني شلوتزر المُتوفى عام 1809م، يصف به مجموعة اللغات العبرية والعربية والسريانية (الآرامية) التي يمكن ملاحظة أصول بعضها من بعض، وأطلق عليها جميعاً لغرض الدَّرْس اللغوي وصف اللغات السامية. الوصف هذا صار مصطلحاً معروفاً للمشتغلين بفقه اللغة (الفيلولوجيا) يميزون به هذه المجموعة من اللغات السامية عن المجموعات الأخرى التي تضم مثل الفارسية والتركية واللاتينية، وقد ابتكروا لهذه اللغات غير السامية مصطلحاً آخر هو الهندو- أوروبية. وقد استقى هذه التسمية من جدول تقسيم الشعوب؛ الموجود في العهد القديم. حيث تنسب هذه اللغات إلى سام بن نوح عليه السلام. وسكنت قديماً، شبه الجزيرة العربية، واليمن، والحبشة، وبلاد الشام، والعراق. اللغة العربية، والمعينية، والسبئية، والحميرية، والحبشية؛ التي تضم اللغة الجعزية، والأمهرية والكنعانية والآرامية والعبرية. ولم يجد هؤلاء اللغويون وقتها ضرراً في استخدام مثل هذه المصطلحات الفيلولوجية التي سرعان ما تحول معناها عن حدود الدرس اللغوي فصارت دلالتها عِرْقية إثنوجرافية متصلة بمفاهيم السلالات الأنثروبولوجية وأصول الجماعات الإنسانية. وانتقل معنى السامية وشاع بسرعة في المائة سنة الأخيرة. هذا التحول شاع في الثقافة والإعلام والتدوين التاريخي وكُرَّس ذهنياً.
وجهات النظر المختلفة ذكرها الدكتور جواد علي، في كتابه (تاريخ العرب قبل الإسلام)، إذ قال: «ولعلني لا أكون مخطئاً أو مبالغاً إذا قلت إن الوقت حان لاستبدال مصطلح سامي وسامية بعربي وعربية، فقد رأينا أن تلك التسمية، تسمية مصطنعة تقوم على أساس التقارب في اللهجات وعلى أساس فكرة الأنساب الواردة في التوراة. أما مصطلحنا العرب الذي يقابل السامية، فهو أقرب عندي في نظري إلى العلم، وليس ببعيد ولا بقريب عن العلم والمنطق؛ أن السامية عربية لكونها ظهرت في جزيرة العرب ونحن نعلم أن كثيراً من العلماء يرون أن جزيرة العرب هي مهد الساميين». وفي العام 1973م أشار طه باقر في كتابه (مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة) إلى تسمية الساميين واللغات السامية واقترح ضرورة استبدالها بتسمية أخرى بعد أن ثبت عدم دقتها. وقال؛»يجدر بنا أن نبيّن أن هذه التسمية الشائعة، أي الساميين واللغات السامية، غير موفقة ولا صحيحة في رأيي رغم شيوعها في الاستعمال، ولو أننا سمينا هذه اللغات بلغات الجزيرة أو اللغات العربية والأقوام السامية بالأقوام العربية أو أقوام الجزيرة لكان ذلك أقرب إلى الصواب». وأشار الأستاذ لطفي عبدالوهاب في كتابه (العرب في العصور القديمة) إلى خطأ التسمية القديمة (السامية) من الجوانب العلمية والأنثروبولوجية والتاريخية واللغوية، إلا إنه لم يقدم بديلاً عنها. وفي العام 1978م قال الدكتور عامر سليمان في كتابه (محاضرات في التاريخ القديم) بضرورة استبدال الاسم، بعد أن بين خطأه، بمصطلح اللغات العربية القديمة، وتسمية المتكلمين بها بالأقوام العربية القديمة، اعتقاداً منه بأنه لا بد وأن تضمّ التسمية البديلة اسم العرب، وهم العنصر الأول والأساس، الذي عاش في شبه الجزيرة العربية وما يزال. ولتمييزهم عن العرب الحاليين، الذين يؤلفون قسماً مهماً منهم، وصفهم بالقدماء ووصف لغاتهم بالقديمة. وفي الأعوام التالية استعمل عدد من الباحثين العراقيين مصطلح اللغات الجزرية والأقوام الجزرية بدلاً من اللغات السامية والساميين. وأبرز هؤلاء الباحثين الدكتور سامي سعيد الأحمد، فهو أول من استعمل اصطلاح الجزري واللغات الجزرية والأقوام الجزرية بدل السامي والسامية والأقوام السامية في بحث عنوانه (الجزرية وليس السامية) باللغة الانكليزية ونشر في جريدة ( بغداد اوبزرفر ) في 27 تشرين الأول 1978 عدد 3259. وخلاصة رأيه تتمثل، بما أن المجموعات البشرية التيندفعت من شبه الجزيرة العربية سواء من شمالها الغربي (منطقة الجزيرة الفراتية) أو من أجزائها الأخرى فيستحسن إطلاق لفظة الجزريون (سكان الجزيرة العربية) عليهم.
وفي العام 1999م أغنى المكتبة العربية الأستاذ الدكتور محمد بهجت قبيسي بكتابه القيم (ملامح في فقه اللهجات العربيات، من الأكدية والكنعانية وحتى السبئية والعدنانية)، إذ أنه استعمل مصطلح اللهجات العربيات، للدلالة على اللغات التي تفرعت عن اللغة الأم التي كان موطنها الأول في شبه الجزيرة العربية، وبذلك أطلق على كل لهجة تفرعت عن تلك اللغة الأم اسمها كما ورد في النصوص القديمة مسبوقاً بعبارة (اللهجة العربية) فسمى الأكدية مثلاً اللهجة العربية الأكدية، والآرامية اللهجة العربية الآرامية. وهكذا الدكتور خالد إسماعيل، الذي عنون كتابه عن فقه هذه المجموعة (السامية) من اللغات بالتسمية المقترحة وهي(فقه اللغات العاربة المقارن).