د.عبدالله بن موسى الطاير
الدولة مسؤولة عن تصرفاتها، وعن كل شيء تحت سيادتها، ولذلك تكون حساباتها معقدة في شن الحرب مثلاً، أو في تهديد الأمن والسلم الدوليين، أو في إلحاق الضرر بالاقتصاد والتجارة الدولية، ولذلك فإن النظام الدولي مبني في المقام الأول على الدول، وليس على الجهات الفاعلة من غير الدول Non-state Actors.
أرست معاهدة وستفاليا (1648) الأساس لنظام الدولة الحديثة، حيث أوجدت مبدأ الدول ذات السيادة باعتبارها الجهات الفاعلة الأساسية في العلاقات الدولية، مما منح الدول سيطرة حصرية على شؤونها الداخلية واعترف بها على أنها متساوية على الساحة الدولية. شهد القرنان التاسع عشر والعشرون تصاعد وتيرة تأسيس الدول القومية فقامت دول قوية ذات أقاليم وسكان وحكومات محددة، وأصبحت لاحقاً القوى الدافعة في تشكيل النظام الدولي من خلال المعاهدات والاتفاقيات التجارية والتحالفات.
غني عن القول إن الدول الطبيعية تتمتع بمكانة فريدة من حيث الشرعية والمساءلة داخل النظام الدولي، ومعترف بها من قبل الدول الأخرى، وملتزمة بالقانون الدولي، مما يسمح بإبرام اتفاقيات رسمية وإنفاذها. وغالباً ما تفتقر الجهات الفاعلة غير الحكومية (مليشيات، تنظيمات خارجة على الدولة، تجمعات إرهابية ... إلخ) إلى هذا المستوى من الاعتراف والمساءلة، مما يجعل من الصعب تحميلها المسؤولية عن أفعالها، ولذلك فإنها تتصرف وفق مصالح ضيقة الأفق، وتغلب المبدأ أو الأيديولوجية أو الأجندة المكلّفة بها على بقية المصالح، ولا يعنيها أبداً لو احترق العالم من حولها طالما هي تنفذ أجندتها الخاصة.
ومن نافلة القول التذكير بأن الدول تمتلك القدرة الإدارية اللازمة لتنفيذ الاتفاقيات الدولية وإدارة العمليات المعقدة مثل التجارة والهجرة والأمن، فقد أنشأت بيروقراطيات، وأنظمة قانونية، وآليات تنفيذ تفتقر إليها الجهات الفاعلة غير الحكومية. وفي المقابل فإن الجهات الفاعلة غير الحكومية غير قادرة على الاضطلاع بأدوار إيجابية في محيطها بدون أن يكون ذلك وفق منظور ضيق يغلب المصالح الخاصة على العامة، كما أن الاعتماد عليها في حكم دول يؤدي بالضرورة إلى زعزعة الاستقرار، وعدم اليقين بالمقارنة مع الدول بأقاليمها المحددة وسلطتها المركزية، الأكثر قدرة على الحفاظ على النظام وحل النزاعات.
بسط خارطة الشرق الأوسط يضعنا أمام دول وازنة تمارس أدوارها بمسؤولية أمام شعوبها وأمام المجتمع الدولي، ودول فاشلة؛ نحرت سيادتها على مقصلة الربيع العربي، وخلفتها جماعات متناحرة تتلاعب بقرار كانت الدول المسؤولة عنه، ولاعبون خارج إطار الدولة، ودول مارقة تسعى إلى تغيير النظام الدولي القائم لصالحها طموحاتها السياسية، وتنتهك القانون والأعراف الدولية بشكل صارخ، وتمارس مستوى أكبر من العدوان وتجاهل القواعد الدولية في ظل صمت عالمي مريب حيال سلوكها.
عندما تكتظ منطقة من العالم بمكونات متنافرة مثل اللاعبين خارج نطاق الدولة، والدول الفاشلة والدول المارقة، يكون قدرها المزيد الاضطرابات ومصاريعها مفتوحة على التدخلات الدولية في شؤونها، ويصبح عدم الاستقرار هو المستدام الوحيد في محيطها الجيوبوليتيكي.
يمكن التغلب على الفاعلين خارج نطاق الدولة بمساعدة الدول الفاشلة على استعادة سياستها، وبذلك نكون قد قوضنا سلطة المليشيات وأعدنا للدولة مسؤولياتها، لكننا لا نستطيع ترويض الدول المارقة بدون اللجوء إلى القوة أو الرهان على صبر طويل قد لا تأتي نتائجه أبدا كما نريد.
لا ألوم الذين وصلوا إلى قناعة بأن النظام العالمي الحالي قد بلغ منتهاه، وأن الظروف أصبحت مهيأة لولادة نظام بديل، يتغلب على هذه المشاكل المزمنة والمستعصية على الحلول، لكني أربا بالمنجز البشري في جوانب عديدة على التدمير، خاصة إذا كانت ولادة النظام الدولي المؤمل متعسرة ولا يعجل بها غير حرب ثالثة.