سهوب بغدادي
سنلقي نظرة اليوم على حياة شابين يعايشان حيثيات أقرب ما يمكننا أن نصفها بالمتطابقة، لنبدأ بالشاب أحمد الذي يعيش في مدينة الرياض بمفرده، يبدأ الشاب يومه بإغلاق المنبه ثم تصفح مواقع التواصل الاجتماعي، ومن ثم يستعد للذهاب إلى العمل، وفي طريقه يتوقف عند أحد المقاهي ليأخذ قهوته الصباحية، يتوقف عند شباك الطلبات ويدلي بطلبه المعتاد بطريقة سردية، فيستلم طلبه ويدخل مقر عمله متجهًا إلى مكتبه بكل هدوء، تأتي ساعة الغداء والاستراحة يعتذر زميله اللحوح -كلنا نعرف ذلك الشخص- الذي يطلب منك تناول الغداء معه دون كلل أو ملل، بعدها يخرج طعامه وقد علا رأسه سماعات كبيرة وكأنها يافطة دعايات كتب عليها «لا تقترب مني» وينهي ما تبقى من يومه ليذهب إلى النادي الرياضي ويتمرن بهدوء ويعود أدراجه إلى سريره وتتكرر الأيام والسنين وأحمد هو أحمد. في الشارع المقابل، يسكن فيصل الذي انتقل حديثًا إلى مدينة الرياض، يستيقظ على صوت المنبه فيجد اتصالين فائتين الأول من والدته والثاني أحد الأشخاص الذين التقاهم في نادي الكتاب، يأخذ أغراضه ليذهب إلى العمل ويتوقف لأخذ قهوته الصباحية ملقيًا التحية على العامل، صباح الخير كيف حالك؟ فيرد العامل: هل تريد قهوتك المعتادة؟ فيصل: نعم، ولكن أضف عليها كوبين آخرين، يأخذ قهوته وقد علت الابتسامة محياه، ويتجه إلى العمل، فيسلم على العم فلان عند البوابة الرئيسية وأبي فلان في المواقف، ويبارك لشخص آخر بالمولود الجديد، ليصل إلى مكتبه ويلقي التحية على زميليه من ثم يناولهما قهوته المفضلة، من ثم يأتي وقت الاستراحة «يلزم أبو فلان» على فيصل أن يأكل معه، فيفعل، وبعد انتهاء الدوام يذهب إلى النادي ويلقي التحية على المدرب والمتدرب والعامل، ويتجاذب أطراف الحديث مع أحد المستجدين عن أفضل أنواع المكملات، ويذهب إلى منزله فيقرر معاودة الاتصال بذلك الشخص من نادي الكتاب، فيفعل ويخرج من تلك المكالمة بخطة لنهاية الأسبوع، أحمد وفيصل كلاهما وحيد ولكن أحدهما يشعر بالوحدة، بالطبع لا بد من مرور بعض اللحظات التي يشعر فيها كلاهما بالوحدة ولكن بمقدار أقل على الأقل، في هذا السياق، خلص بعض علماء النفس والاجتماع إلى أن أكثر ما يساهم في جودة حياة الإنسان هو العلاقات والروابط الإنسانية، وليست العلاقات بكثرتها أو عمقها بالضرورة إنما بتنوعها في إطارات ومجالات عديدة، بأن يكون للشخص أكثر من دائرة اجتماعية تحوي روابط جيدةوعًا ما تمده بإحساس الانتماء والثقة والتقبل، بل إن إحدى الدراسات وجدت أن سكان المناطق التي يغلب عليها طابع «الجيرة» والروابط الاجتماعية تتمتع بمعدلات حياة أطول، وربطت مفهوم السعادة بجودة تلك العلاقات في حياة الفرد، لا المال أو الشهرة أو المنصب، إن الوحدة وباء العصر، باعتبار أن الجميع يمتلك أداة تواصل إلا أنه يتملص من التواصل، فيهرب من الرد على الاتصال، ويتأخر في مشاهدة الرسالة، فيضحي الشخص في موقع المستقبل فقط، مستقبل للكم الهائل من المعلومات التي يشاهدها على مدار الساعة عبر الشاشة، دون أن يبذل شيئاً في المقابل، نحن نستمع إلى كلام لا يعجبنا فنغير القناة أو الحساب ونذهب إلى آخر لنلغي مفعول وتأثير ما أساءنا، ثم نشاهد مشهدًا غير لطيف فنقلب المقاطع لنجد ما يلائمنا، دون الحديث أو إبداء رد فعل، فكان التواصل الحقيقي والفعَّال أساس البشرية، أما الآن فالتواصل الافتراضي أودى بتلك الأساسات والاحتياجات الفطرية، وخير مثال في هذا النطاق، ما يواجهه كبار السن -حفظهم الله - فهم يعيشون وحدة لا نظير لها، بل غربة أجيال وفكر وثقافة مختلفة كليًا، مع ظهور اهتمامات حديثة وتقنيات غير معهودة لهم، إن الإحساس بالوحدة ليس بالضرورة أن يكون ملازمًا لعدم وجود أشخاص آخرين، فقد تشعر بالوحدة وأنت في حشد غفير، والأسوأ هو شعورك بالوحدة في زواجك، وإحساس الوحدة بين الأهل والأصدقاء والأقران، فهناك فرق بين الوحدة والانعزال وأن تكون وحيدًا بإرادتك ومستأنسًا بنفسك.
«اللهم إني أسألك الأنس بقربك».