ليلى أمين السيف
حدث نقاشٌ حادٌّ بيني وبين إحداهن فذكرت لي هذه الجملة على اعتبار ’ن بيتها وعيالها أولى من أمها العاجزة وفقاً للمثل أعلاه.. لم أحاول تصحيح المعنى لها أو حتى شرحه فلو كانت قد اعتبرت أمها جزءاً من البيت لما علقت بهذا التعليق المؤلم.
بالتأكيد معظمكم يعلم أن أصل هذا المثل هو مصري ويقال إن «الجامع» هنا هو جامع الضرائب العثماني وقتها وليس بيت الله كما نظن حيث كان الوالي يولّي رجلاً يجمع المال من الناس فيدور عليهم فى البيوت فكان الناس يطلقون عليه جامع المال (الجامع) فكان حين يمر لا يوجد فى البيت إلا ثمن الأكل خلال اليوم فكانوا يقولون يحرم ع الجامع أي جامع المال وليس كما فُسِّر الآن.
ولو اعتبرنا أنه يقصد بهذا المثل «الجامع» لوجدنا أن ذلك يتنافى مع قول الله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}.
ولو اعتبرنا أمها من جملة الناس لانطبق عليها.. {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} ازداد ثقل الحياة على تلك الأم بعد تثاقل أبنائها عنها وعن إعانتها على تصاريف الحياة.
قبل أسبوعين أو يزيد جاءت لزيارتي إحدى نزيلات دار العجزة ورأت ابنتي الكبرى ابنة النزيلة وهي تدفعها بالكرسي المتحرك من دار العجزة البعيدة نسبياً عني حتى بيتي ووقتها نزلت أمطار شديدة مصحوبة برياح قوية مما اضطر ابنتها لتغطية أمها بكيس بلاستيك كبير ولكنها رغم ذلك لم ترد أن تخلف وعدها لنا ولأمها بدرجة أولى فقد كانت متعلقة بي جداً.. الجدير بذكره أن الابنة تبلغ من العمر 67 عاماً وأما الأم فقد كانت كبيرة حجماً وعمراً حيث تبلغ 92 عاماً كما كان من الصعب دفعها في الشارع المبلول.
ذكّرت ابنتي بهذا الموقف بعد أن سمعت النقاش الحاد من تلك المرأة وتنصلها وإخوتها من خدمة أمهم بحجج واهية فكل يرمي المسؤولية على الآخر فكلهم يقول لديه مسؤولية أبناؤه وإيجاره وغيرها من أمور الدنيا.
قلت لها تذكرين تلك العجوز وابنتها؟ لقد ذهبت لزيارتها منذ يومين واتصلت ابنتها من إسبانيا تطمئن على أمها وتسألها عن الورد .فهل تشتري لها وروداً جديدة أم أن الورود الموجودة مازالت تقاوم الذبول؟ ردت الأم بحبور فخورة بابنتها أنه لا حاجة لذلك فالورود بخير وهي بخير لأنني معها وبقيت عندها ساعتين وودعتها على وعد أن أقابلها في الأسبوع التالي..
تعلم الابنة أن أمها تحب الورد وعندما تسافر ويطول سفرها فإنها لا تنسى ما تحبه أمها.. موقف بسيط مثل هذا لايحتاج شرحاً ولا يمكننا غير الدعاء بالهداية لهؤلاء الأبناء. لا أعلم ماذا أقول لهم سوى أن أدعو الله أن يهديهم وأن يرزق والديهم فيغنيهم ويكفيهم.. وأقول لكل معسر نعم إن أهل بيتك من زوج أو أبناء أولى بالنفقة من والديك كما قال أهل العلم والفقه ولكن تذكر أن والديك لم يبخلا عليك أبداً وأنهما من فرط حبهما لك لم يدخرا ليوم كهذا تتخلى عنهما ببساطة متحججاً بانشغالك ببيتك وأهلك. وهما ليس لهما بعد الله سواك والله إن كنت صادق النية في الإحسان إليهما فإن الله سبحانه سيسخر لك جنود السموات والأرض ولن ينقص من مالك أو جهدك شيئاً إن نويته لوجه الله فكيف وهو لوالديك..كيف تهنأ أن تنام شبعاناً وتترك والديك يسألان الناس إلحافاً.. كيف ترضى أن ينشد والداك غيرك ليساعدهما في سداد فاتورة أو محادثة صاحب العقار أو غيرها من أمور الحياة وأنت لا تتفقد ولا تسأل ولا تبدي حتى اهتماماً. مكالمة كل كم يوم تؤدي ما عليك من واجب مع قبض اليد والقلب. يدور الزمان وستسمع ذات الكلام وسيوجع قلبك ذات السهام. إن لم تتفقد والديك براً لما صنعاه فتفقدهما تفقد الفقير المحتاج ومن باب الصدقات. والله حتى هذا موجع ومع ذلك أحسن إليهما فإنك إنما تحسن لنفسك قبلهما..
أتعتقد أنك قد أحسنت لأهل بيتك حين حرمت والديك من تفقدهما ليس فقط بالمال ولكن أيضاً بتفقد احتياجاتهما ومتابعة مواعيد أطبائهم وغيرها من أمور يعجزون عن تأديتها في هذا الزمن الإلكتروني.. والله إنك قد صبأت عن أخلاق الإسلام وعُرف المسلمين وأضعت كنزاً من الدعاء السهل بلا ثمن حيث ستندم عليه بعد فوات الأوان هذا إن لم تأخذك العزة بالإثم فتتبجح وتقول ليس لي شأن بهما. وهما أنجباني وكان عليهما مسؤولية تدبر أمورهم كما سمعتها من قبل.
كانت أمي الله يرحم ضعفها فنانة في الطهي والآن نأكل طعامها على مضض وهي تصر على أن تطبخ لنا رغم عجزها وتعبها ولم يعد طهي أمي كما كان. فقلت لابنتي إن وصلت لذاك العمر أمنعيني عن الطهي وبدون خجل بأي أسلوب ترينه أفضل.
بالطبع إن أمثال هؤلاء العاقين قليل إن شاء الله في مجتمعاتنا الإسلامية ولله الحمد والشكر.
قالت لي أمي زمان إنها كانت دائماً ما تدعو:
«اللهم إني أعوذ بك من اليُتْمَين: الأصغر، والأكبر.
سألتها: وما اليُتْمَان؟
قالت: «اليتم الأصغر أن تفقد والدَيك، واليتم الأكبر أن تفقد رضاهما»