د. فهد بن أحمد النغيمش
في زمن كثرت فيه «الفاشينستات» رجالاً ونساءً. وفي وقت أصبحت المظاهر فيه أساساً راسخاً في أذهاننا وأولويات حياتنا.. استيقظنا اليوم على صناعة التكلف والتي غدت كالسم يجري في شرايين البشر في البيوت والمؤسسات والشوارع والسوشل ميديا وكل فئات المجتمع... (مبالغات) ليس لها حدود ولا حصر حتى صار الإنسان يحمل نفسه أضعاف طاقته (سيارة غالية - بيت - لباس - وظيفة) ظواهر جلها حب الظهور وجذب الاهتمام.
هو سباق ماراثوني عنوانه (نحن أحسن) حتى في مسميات بعض البنات التي لتقرأها بطريقة سليمة أصبح ضرباً من الخيال.. نعم سباق لكنه سباق نحو مظاهر خداعة ومزيفة وصرف لمبالغ طائلة عالية حتى سحقت الطبقة الضعيفة بالقروض والفوائد.
اليوم.. هناك من يتكلف الضيافة بما لا يوافق شرعاً ولا عرفاً ولا عادات، لا لشيء إلا ليقال فلان أكرمنا إكراماً لم ينقله التاريخ في الروايات.
يقول الإمام الشافعي رحمه الله:
إذا المرء لا يرعاك إلا تكلفا
فدعه ولا تكثر عليه التأسفا
ولو أن كل واحد منا وضع أمام ناظريه أن هذا الضيف، إنما جاءه حباً وزيارةً، ليأنس برؤيته وبالحديث معه لما جعل التكلف عنواناً لضيافته ولما بنى أسواراً عالية من التزاور مستقبلاً، حتى أصبح البعض للأسف يعد قدوم الضيف من الهموم الكبيرة، يكفيه ابتسامة سخية، وكلمة ندية، وتقديم ما هو معهود وموجود (الجود من الموجود) فذلكم أصدق أواصر المحبة والضيافة وأدومها.
ومن أنواع التكلف الذي أصبحنا نشاهده في مجتمعاتنا التكلف في المشي وتغير نغمات الصوت وكأنه قد جاء من كوكب آخر ولقد كان قدوتنا وخير البشرية عليه الصلاة والسلام لا يتكلف في مشيته ولا في حديثه، يقول ابن عباس: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مشى، مشى مشيًا مجتمعًا، يعرف أنه ليس بمشي عاجز ولا كسلان)، وهي مشية السكينة والوقار {وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} (سورة الإسراء: 37).
بل كان عليه الصلاة والسلام لا يتكلف في جلوسه ولا في أكله، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، كل، جعلني الله فداك، متكئًا، فإنه أهون عليك، فأصغى برأسه حتى كاد أن تصيب جبهته الأرض، قال: (لا، بل آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد)، والبعض اليوم تراه يشرب باليد اليسرى أو بطريقة مخجلة أشبه بالمستلقي كل ذلك ظناً منه أنه قد واكب التطور أو عاصره أو جاء بالإتيكيت... لماذا لا يجلس أحدنا جلسة المتواضع الذي يرى أن كل من في المجلس خيراً منه وأعلم وإن قدموه في المكان فهو لفضل منهم وكرم...
وأما الكلام والتكلف في الحديث فهناك اليوم من يبحث عن المفردات الغريبة، ويأتي بالمصطلحات العجيبة، لا لأجل أن ينفع الناس أو يفهموا كلامه، وإنما ليقال إنه مثقف وبليغ وعلامة، ولو تفحص سيرة من هو أفضل منه شرفاً وقدراً وخيرية لعلم أنه عليه الصلاة والسلام لم يتكلف الكلام، بل كان كلامه كما وصفته عائشة رضي الله عنها: (كان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كلاماً فصلاً، يفهمه كل من يسمعه) وقد جاء في الحديث: (إن الله عز وجل يبغض البليغ من الرجال، الذي يتخلل بلسانه، كما تتخلل البقرة بلسانها)، فهو يقلب لسانه في فمه وبين أسنانه تلذذًا بالكلام، كما تفعل ذلك البقرة تلذذًا بالطعام.
لم يكن عليه الصلاة والسلام يتكلف في مشاعره، فقد بكى ابن بنته رضي الله عنها وبكى على أمه وعمه صلوات ربي وسلامه عليه، ومهما كانت حالتك لا تتكلف مشاعرك.. قد يأتيك يوم فيه حزن وبكاء، فلا تحبس دمعةً، وقد يمر بك يوم فيه سعادة وصفاء، فلا تكتم ضحكةً، وقد يمر بك يوم فيه قطيعة وجفاء، تحب يوماً، وتبغض يوماً، فإذا أحببت فابذل، وإذا أبغضت فاعدل، واعلم إن العمر واحد، والحياة قصيرة، فعشها كما أنت، بعيداً عن التكلف..
ليعش الواحد منا حياة العبودية، عبداً بسيطاً لخالقه ولعباده متواضعاً وديعاً، لا تتكلف أي أمر من أمور الدنيا، فالله {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} (سورة البقرة: 286)، {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (سورة البقرة: 185)، عش كما أنت، بطبيعتك التي خلقها الله تعالى، ولا تتكلف أمام أحد، ولا تدعي شيئاً لا تعرفه، ولا تحاول لفت نظر الناس إليك، فإن من أشق الأعمال أن يعيش الإنسان بشخصية غيره.