سارا القرني
لا يعرف المرءُ معنى النعمة حتى يفقدها.. ولو كان يعرف قيمتها لفقدَها فقداً أشدّ من فقد جاهلها، وأنا منذ فترةٍ بسيطة لا زلتُ أبكي أمي.. بكاءَ من لم يعرف الفقد في حياته إلى الآن، بكاءَ من أصبح يتيماً على كِبر، لا ملجأ له من عِظَم المصيبة إلا الله.
كانت أمي امرأةً استثنائية بما تحمله الكلمة من معنى، زاهدةً في دنياها، خرجَت منها خالية الوفاض كما جاءت إليها، لم تترك إلا مسجداً كانت حريصةً على بنائه منذ سنوات، وبيتاً صغيراً لم يجرؤ أحدُنا على تفقده حتى الآن، وكانت إذا جاءت لها الدنيا بما فيها.. وزعتها علينا كمن يوزع حلوى على الأطفال دون أن يكترث بما سيبقى في حوزته لغدس، ودائماً ما تستغفر كمَن أذنب عمره.. وواللهِ ما قد رأيتُها تنطق بلممِ القولِ حتى أقول إنها تستغفر لكبير.
ليست مقالةً ما أكتب.. بل نعيُ من أُغلِقَ بابٌ من أبوابِ الجنةِ في وجهه، حزناً أظنّهُ سيبقى أبد الدهر، لن أعتادهُ أو أتجاوزه، وودِدتُ لو أنّ ما بقي من عمري يُعطى لوهبتُه إياها، وظللتُ عندها لا أبرح حتى يأمر الله بي.
عندما قالوا إنّ أمي ماتت.. همَمتُ أن أهاتفها لتخبرني بما أفعل، للمرة الثانية تيتّمَتْ هذه المرأة التي ظنّت أن لن يكسرها شيء، فانكسرْتُ كمَن لم يكُن له مقامٌ من قبل، وحتى اللحظة لا أجد متنفساً إلا {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
لقد كنتُ بارعةً في كتابة حزن الآخرين.. نثراً وشعراً، لكن عندما تعلّق الأمر بأمي أصابني الخرس، كيف أكتب وجعاً ما له من قرار، وألماً يحتشدُ في صدري.. وبلاءً لا أعرف له لغةً تصفه، في كلّ موضعٍ ذكرى، وفي كلّ ذكرى غصة، وقد رأيتُ أمي تشربُ الشايَ في ركنِ الغرفةِ منذ فترة.. ثمّ رأيتُ ذات الموضع لا كوب فيهِ ولا أمي.
رحمَ اللهُ أمي.. المرأةُ التي إذا وجدَت في يومها فراغاً صلّت، وإنْ وجدت غير الإثنين والخميس صامت، وقبل أن يوقظها منبّه الساعة ليلاً.. أيقظها حبّ الوقوف بين يدي الله، فقامت بقية ليلها، أكثر الناس برّاً بمن حولها، أقلّهم إنفاقاً على نفسها وأكثرهم صدقة، أقلّهم سؤالاً عما فعل الناس وأكثرهم سؤالاً عن أحوالهم.. لعلّ منهم محتاجاً فتعينه، أو مهموماً فتواسيه، أو مكسوراً لتجبره، فيا جبار السموات والأرض اجبر كسرنا والطف بأرواحنا.
عندما قالوا إن أمي ماتت.. كانت الدموعُ ناراً تفيض، والوجعُ في صدري نسوراً تحومُ حول جثة، فإذا انقضى اليومُ ذهبَ مني كلّ رجاءٍ إلا رجائي لله، وإذا ابتدأ آخر.. خلى مني كلّ صوتٍ إلا أنيناً كادَ أن ينوء بقلبي.
عندما قالوا إن أمي ماتت.. أيقنتُ حينها أنّ الدنيا لن تصبح ما كانت عليه من قبل، كلّ شيءٍ بعد تلك اللحظةِ ينقصهُ أمي، حتى الضحكة التي سأضحكها يوماً ما.. ستكون بنبرة أمي، ثمّ أصمت.. وأقول {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.