د.محمد بن عبدالرحمن البشر
توفي قبل أيام معالي الأخ والزميل الأستاذ صالح بن محمد السليمان، مدير عام الصوامع الأسبق رحمه الله رحمة واسعة، وفقده مؤلم لأهله وذويه وصحبه، وله من المحبين والأصحاب عدد لا يحصى، كان هذا العدد ثمرة لأخلاق نبيلة جبل عليها، ومارسها تطبيقاً في حياته اليومية، فلا يترك مناسبة أفراح أو أتراح إلا ويذهب مهنئاً أو مواسياً، جبلة طبع عليها، ونهجاً سلكه في حياته العامرة بالخير، قلبه مفتوح للمحبة، وبابه مفتوح للكرم، ومكتبه في العمل مشروع للتيسير، وتسهيل أمور المراجعين، تأنس بالحديث معه والاستماع إليه، ويتلقى المستمع الشوارد فيما يدور في المجتمع هنا أو هناك، لاسيما مجتمع قاطني الرياض، وبصفة خاصة أسر الرياض، كما قد يضيف إلى ذلك معلومات تفيد لمن رغب التدوين في الكتب أو الصحف، وفي الغالب فإن المعلومة تكون دقيقة لأنه يختار ما ينقله بعناية دون مبالغة أو خسف، ولا غرو في ذلك فبيته الكريم بيت علم، وهو من أوائل من تخرجوا من أول ثانوية في الرياض.
يمكن القول إن مجالس المرحوم الأخ الأستاذ صالح وإخوانه الكرام دواوين أدبية، والحقيقة أن زائرهم رحم الله من توفي منهم، وحفظ من بقي، يجني ثمراً علمياً من أي منهم سواء الشيخ إبراهيم أو الشيخ أحمد أو الأستاذ عبدالعزيز أو معالي الأستاذ صالح أو المهندس عبدالله أو الأستاذ خالد بن أحمد، رحم الله من فقدناهم، وكان من الرواد المداومين على مجالسهم الأستاذ عبدالرحمن الرويشد رحمه الله، مؤرخ أسرة آل سعود المالكة الكريمة، وكذلك الشيخ إبراهيم بن عثمان عالم لديه مخطوطات ومعلومات أفاد منها أخي الأستاذ الدكتور راشد العساكر، المؤرخ البارز، وذكر ذلك في كتبه الكثيرة والمميزة، وفي مجلسهم العامر تتقاطر المعلومات كالمطر من كل غمامة، لاسيما ما يخص الرياض، ويدور النقاش وكل يدلي بدلوه، وبحكم كون معالي الأخ صالح رحمه الله في صوامع الغلال التي يراجعها الحاضرة والبادية، فإن بعضاً من مراجعيه قد يسرد قصة أو ينقل معلومة تاريخيّة أو اجتماعية، فتجدها مطروحة في ذلك المجلس الكريم فيستفيد منه الحضور، ومن حسن الطالع أن بعضاً من الحضور شغوف بالتأليف، لهذا حفظت لنا مجالس هذه الأسرة الكريمة معلومات عن الرياض، ربما أن بعضها قد يضيع لو لم يدون، ونجد ثمرة ذلك في كتب الأستاذ خالد بن أحمد مثل المعجم، وبعض من تلك المعلومات ساهم بها معالي الأخ صالح رحمه الله، كما أن الأخ المهندس عبدالله السليمان قد سطر لنا كتابا شاملاً عن العمارة في الرياض أفاد منه الباحثون، وامتداداً لتلك المجالس فأذكر وأنا أعمل بالمغرب أن الأستاذ عبدالرحمن الرويشد رحمه الله اتصل بي وذكر أن شخصية مرموقة تريد التأكد من صحة ما ذكره ابن بطوطة عن ابن تيمية، وهل هناك من علماء المغرب من يرى خطأ ابن بطوطة فيما قال، وأرسل إليّ خطاباً بذلك، وقبل أن أجيب تحدثت مع أخي معالي الأستاذ صالح السليمان للنقاش حوله لمعرفتي بما شكك به البعض حول قول ابن بطوطة، وحتى أكون دقيقاً فقد ذهبت إلى محقق كتاب ابن بطوطة، أستاذنا المرحوم العلامة عبدالهادي التازي في منزله، وكان قد تجاوز التسعين، وهو صديق عزيز، وأدلى بدلوه وكتبت بذلك خطاباً، وهكذا كانت تلك المجالس تعمر بالفوائد العلمية، وكان معالي الأخ صالح أحد أقطابها.
الشوارد التي يذكرها الأخ صالح لم تدون في كتاب، لكن بعضها متداول بين الناس، أو يعرفها القليل، فهو ينقل عن كبار السن والمراجعين، وكل يذكر ماعنده، ممن حوله من قريب أو صديق، وقد تتفرع الشوارد، فيسأل أحد الحضور المزيد ممن يعرفهم، فإن وجد إضافة طرحها في جلسة قادمة، وليس بالضرورة أن تكون تلك الشوارد تستحق التدوين، لكن الحضور يستأنس بها، وقد تكون طرفة من الطرف للممالحة، والشوارد لا يحكمها زمن فقد تكون عتيقة أو حديثة، أو خاصة بفرد أو بعدد من الأفراد أو عامة الناس، وقد تكون عائلية، وكثير ما يتم استعراض حكمة الملك عبد العزيز طيب الله ثراه، ومهارته وصفاته الحميده، وقدرته على التعامل مع الأوضاع السياسية المعاصرة له بما يخدم الدين الإسلامي، والبلاد والمواطن، فالملك عبدالعزيز رحمه الله له نظرة ثاقبة، وفراسة بينة، وبعد نظر، قل نظيره.
معالي الأخ صالح في مكتبه، يتقاطر عليه المراجعون، فيحاول ما استطاع تلبية مطالبهم، دون كلل، وبصبر قلّ نظيره، ويستقبل الجميع في مكتبه، ونحن نعلم أن في العمل من يبحث عن مدخل للتعقيد والمنع، ومن يبحث عن مخرج للتيسير والتسهيل، وكان فعله التيسير، ولا يلجأ لغيره، وسيرته مع زملائه ونظرائه غاية في الأدب وعدم الدخول في منافسات، ومناكفات، وتلافي ذلك ما استطاع، أما مع موظفيه فالثواب والنصح عنده مقدم على العقاب، ويدفع بالتي هي أحسن، والعمل الوظيفي قد يصاحبه اختلاف في وجهات النظر، وقد عملت معه نائباً له، فيقع أحياناً تباين واختلاف في بعض الطروحات، ولا أذكر يوماً أنها قط قد تحولت إلى خلاف، بل تجاوز كل ما ينشأ من تباين، والتعامل معه بروح الفريق، رحم الله معالي أستاذنا الأخ صالح رحمة واسعة وأدخله فسيح جناته، وأثابه على ما قدم.