أ.د. محمد خير محمود البقاعي
رست سفينة الذكريات على ضفاف مرحلة من أهم سنواتي الـ27 في المملكة العربية السعودية؛ وهي المرحلة التي أخذت بيدي بمساعدة مجموعة من الأصدقاء إلى آفاق التاريخ السعودي المجيد عبر الوثائق الفرنسية التي صدرت في موسوعة «الملك عبد العزيز، سيرته وفترة حكمه في الوثائق الأجنبية»، دار الدائرة، الرياض 1999 م/ 1420 هـ بإشراف ومتابعة من الصديق عالم الإناسة وفقيه التراث الشعبي السعودي البروفسور سعد العبد الله الصويان الذي سيكون لي حديث مفصل عنه في هذه الشذرات. لقد عرفت هذه الكوكبة من الأصدقاء في مواقع عملهم قبل حصولهم على الدكتوراه، وهم أهلها قبل حصولهم عليها.
وتابعت مسيرتهم في الحياة والعلم، كان علو الهمة، وبذل الغالي والرخيص سعيا إلى تحقيق التطلعات المستحقة والآمال المعقودة.
ويأتي في طليعة هذه الكوكبة الصديق الدكتور عبد الله بن محمد المنيف «أبو الحارث» (أخو الهواجر) كما كان يردد شيخنا أبو عبد الرحمن ابن عقيل الظاهري- يحفظه الله- عندما كان يسألني عنه. رافقت إلى مكتب الدكتور المنيف الصديق المؤرخ ومحب التاريخ السعودي وعاشق الرياض يوسف بن محمد العتيق في مكتبة الملك فهد الوطنية، مديرا لقسم المخطوطات والوثائق، وكان قد حصل على الماجستير من جامعة الملك سعود عام 1417 هـ/ 1996 م.
وهي السنة التي قدمت فيها إلى الرياض، وتوثقت الصلات العلمية، وتكررت اللقاءات التي كنت خلالها متلقيا واعيا، وكان أبو الحارث يتحفني من فيض معارفه بنصوص التاريخ السعودي وبكثير من أحاديث الأنساب والعادات والتقاليد، وشؤون الرياض وشجونها والذكريات عن تلك الصحبة واللقاءات يمكن أن تكون كتابا مفردا ولكنني أورد غيضا من فيض، أوله أنني شهدت حصوله على شهادة الدكتوراه من كلية السياحة والآثار في جامعة الملك سعود عام 1427 هـ/2007م.
إن المناصب العلمية الراقية التي تولاها الدكتور المنيف وما زال لم تشغله عن المتابعة والبحث في مجال اختصاصه والمجالات الأخرى، وكان حيثما حل نعم الصديق والباحث.
وأول ما وجد مكانه في الذاكرة اهتمامه بنصوص التاريخ السعودي المؤسسة؛ سواء منها التي أخرجها في طبعات أنيقة متقنة «سوابق عنوان المجد في تاريخ نجد» (850 - 1165 هـ) ط1، 2002 م. للمؤلف الذي أحبه واعتنى بتراثه عثمان بن عبد الله بن بشر (1210-1290هـ/1795-1873م في جلاجل).
وتجلى حبه لابن بشر وعنايته بآثاره في التقديم الباذخ الذي دبجه في طبعة مكتبة الملك عبد العزيز العامة كتاب «عنوان المجد في تاريخ نجد» 1423هـ/2002 م؛ وهي أفضل طبعة لهذا الكتاب لأنها اعتمدت في نشر على نسخة مخطوطة مكتوبة بخط واضح وجميل، وأورد في المقدمة وصفا اكتناهيا عاليا لهذه المخطوطة النادرة، وقرأت في الحديث عن هذه الطبعة نقدا عاليا ومنصفا للأستاذ المؤرخ المثقف إبراهيم عبد الله السماري منشور في صفحة وراق الجزيرة ع 11، 1424هـ-2003م ومقالة أخرى بقلم الأستاذ المؤرخ محمد بن سعد العيد في ملحق «تاريخ وحضارة» في صحيفة الرياض 1429هـ-2008م العدد 14627.
وقد أخبرني أنه من اقترح مصطلح (الاكتناه) الوارد في مقالة الأستاذ السماري المذكورة أعلاه، وفي عنوان كتاب الأستاذ الدكتور قاسم السامرائي المؤسس (علم الاكتناه العربي الإسلامي، مركز الملك فيصل، 1422 هـ/ 2001 م). والاكتناه: Codicology علم دراسة الكتاب المخطوط وصناعته. وجاء اقتراح المنيف في بحث بعنوان: «وصف اكتناهي لمصحف من القرن التاسع الهجري»، مجلة مكتبة الملك فهد الوطنية، مج 1 ع 1، 1416هـ/ 1995 م».
ونجد هذا العنوان يتكرر في مقالة أعدها أ. عبد العزيز بن عبد الله المضحي ونشرها وراق الجزيرة 1430 هـ/ 2009 م.
ومن المؤسف أن بعض الباحثين ما زال يستخدم المصطلح الأجنبي ويكتبه بحروف عربية (الكودوكولوجيا) وقد أصل الباحثون لمصطلح عربي جميل وفسروه.
وذكريات الفوائد العلمية وتسهيل الحصول على الكتب المطبوعة والمخطوطات حافل بكثير من الذكريات التي لا يتسع لها المقام. ولكنني ما زلت أذكر أن أبا الحارث حدثني عن والده- رحمه الله- أنه أخبره أن المكان الذي تقع فيه جامعة الملك سعود كان يسمى «مرقاع» وأنه كان من أخطر المواقع لا ينام المسافرون من الرياض إلى الدرعية فيه». فسبحان الذي جعله منارة للعلم والحضارة. ولست أنسى أنه اصطحبني يوما إلى مجلس معالي الأستاذ الدكتور وزير التعليم الأسبق خالد بن محمد العنقري- يحفظه الله- في حي النخيل وكانت جلسة عامرة بالعلماء وأساتذة الجامعات، وكان يرافقني إلى جلسات شيخنا أبي عبد الرحمن ابن عقيل الظاهري- يحفظه الله-.
أبو الحارث رجل مودة لا تغيرها الحوادث والأزمنة، يصطنع المعروف في العلم وغيره، ولا يفقد ثقته في إنسانية الإنسان إلا نادرا. أما صديقنا الآخر الدكتور عبد الرحمن بن عبد الله الشقير أستاذ علم اجتماع المعرفة والباحث في الإناسة (الأنث روبولوجيا) الذي كان منذ عرفته مهتما برصد تحولات المجتمع السعودي مستفيدا من اهتماماته التاريخية المعمقة وإحساسه الثاقب بمجريات الجوانب الفكرية والعقدية. عرفته وقد كان في وزارة التعليم العالي وفي دارة الملك عبد العزيز مهتما بنصوص التاريخ والتراث التي كان له فيها إسهامات بارزة.
شهدت حصوله على الماجستير والدكتوراه في علم الاجتماع، وكان دائم التطلع نحو الآفاق البعيدة في اختصاصه تدعمه معارف تراثية متعمقة، وذهنية تحليلية منفتحة على مسالك العلم.
كان لنا حوارات طويلة عن رأس المال الثقافي وعن أعمال المفكرين الفرنسيين.
وكنت حاضرا في مناقشة رسالته للدكتوراه، فكان بارعا في ردوده، واثقا من معلوماته.
ولن أنسى سعيه المبارك في ترتيب لقاء لي مع معالي وزير التعليم العالي الدكتور خالد محمد العنقري في الوزارة؛ إذ قدمت لمعاليه مجموعة من أعمالي العلمية وأهداني -يحفظه الله- كتابه الثمين «الجزيرة العربية في الخرائط الاوروبية القديمة بين نهاية القرن الخامس عشر وبداية القرن التاسع عشر»، معهد العالم العربي، باريس 2001م.
وللكتاب ترجمة فرنسية. الدكتور الشقير اليوم هو باحث اجتماعي ومؤرخ من طراز عال يمتاز بسعة الاطلاع والرحلة في طلب العلم، مدير مركز البحوث الأمنية بجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، وعضو مجلس الجامعة، وعضو هيئة تدريس في الجامعة نفسها. والذكريات والفوائد العلمية كثيرة أذكر منها حديثنا المطول عن أحد الكتب المتفردة في التراث العربي قبل أن يصدره محققا بتعاليقه النفيسة، وأعني كتاب «مشاكلة الناس لزمانهم وما يغلب عليهم في كل عصر» لأحمد بن إسحاق اليعقوبي (284هـ/897 م)، صدر عن دار جداول عام 2019م، وصدره بمقدمة نظرية فريدة في علم اجتماع المعرفة في التراث العربي، وهي دراسة نموذجية لهذا النوع من كتب التراث.
كما لا أنسى حواراتنا الثرية عندما نشر كتابه الجامع «طباعة الكتب ووقفها عند الملك عبد العزيز: دراسة تحليلية وقائمة ببليوجرافية»، صدر عن دارة الملك عبد العزيز 2003م.
كان الحوار مع الدكتور الشقير مثريا، وعلى وجه الخصوص في مجال «رأس المال الثقافي» الذي تعمق فيه وقرأ ما كتبه صاحب المصطلح الفيلسوف الفرنسي بيير بورديو Pierre Bourdieu 1930-2002م الذي هجّر مصطلح ماركس «رأس المال» ببراعة إلى مجال علم اجتماع الثقافة.
ودفعني حواره لقراءة بعض ما كتبه عن المصطلح فرأيت الدكتور الشقير حصّل من فكره وعرضه محصولا وفيرا وكان إبان مناقشته رسالته في الموضوع مقنعا في ردوده، واثقا في أفكاره وبدا ذلك لاحقا في كتابه «رأس المال الثقافي: استراتيجيات النجاح تبدأ من الجامعة» دار روافد الثقافية، 2019م.
حاول في كتابه «تفكيك الحياة اليومية وتحليل سلوك الناس العاديين بمفاهيم جديدة ودرس نظريارأس المال الثقافي والمفاهيم من خلال تطبيقها على الشباب في ثلاث جامعات سعودية هي جامعة الملك سعود، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، جامعة الأمير سلطان، وتوصل إلى أن الاستهلاك الثقافي هو البديل الحقيقي عن الاستهلاك المظهري».
أما ثالث فرسان هذه الطبقة فهو الصديق والزميل الطلعة عبد الرحمن بن ناصر السعيد، من أوائل فرسان التقنية على الشبكة العنكبوتية، وقد نحت لنفسه موقعا سماه «الشنكبوتية» ضمنه كتبا وفوائد، وكان لما عرفته ما زال في مرحلة الدكتوراه، وأذكر بجلاء أن ذلك كان في واحد من أول المقاهي الرائدة التي كانت تجمع شمل المثقفين (الدكتور كيف) في طريق الملك عبد الله، وفيه تكررت لقاءاتنا، وأذكر أنه طلب مجموعة ثرية من مطبوعات اتحاد الكتاب العرب في سورية ساعدنا بعض الأصدقاء في شحنها.
الدكتور عبد الرحمن، راعي جلاجل، كما يسميه صديقنا الدكتور المنيف، سليل رجل من أعلام الأعمال الإنسانية والإغاثة إبان حرب البوسنة الشيخ ناصر بن عبد الرحمن السعيد (1363هـ/ 1943 م- ت. 1442 هـ/ 2021 م) رحمه الله.
د. عبد الرحمن عروضي بارع وتراثي متمكن، لم يكن لنا منذ لقائنا الأول مجلس إلا نثر فيه معارفه التراثية والتقنية، وأطرف ما بقي في الذاكرة أنني تحدثت عن بعض دواوين كبار شعراء العربية (الفرزدق، عمر بن أبي ربيعة وغيرهما) مما نشره المستشرقون ثم ظهر بطبعات عربية لا تفي بالغرض ولا تليق بشعراء كبار فاستهواه الحديث وبدأ في البحث عن مخطوطات ديوان ابن أبي ربيعة والنشرات المختلفة ومنها رسالة جامعية لم تنشر قدمها الدكتور فهر محمود شاكر، وجمع بعض المخطوطات واستعصت عليه مخطوطة في الهند.
وكنت دائم السؤال عن آخر أخبار المشروع حتى فرقتنا شؤون الحياة وشجونها.
وكان -وفقه الله- معجبا بطبعات المستشرقين كتب التراث ولما أعادت دار صادر نشر ما تيسر من تلك المطبوعات سارع فرحا لاقتنائها.
أبو ناصر من الكفاءات العلمية والتقنية التي لا تصدر عنها الآراء إلا عن معرفة وبعد تمحيص، وللمجاملة عنده حيز ضيق، تثق بأن كلامه في القضايا يصدر عن معرفة بعيدة عن الارتجال وإلا سكت.
ومن طرائف أبحاثه الرصينة بحث «حمار الوحش في الشعر العربي القديم: الوصف والتعيين» مجلة دارة الملك عبد العزيز السنة 44 العدد الثاني، 1439هـ/2018م.
ولم يكتف حسبما علمت بالمعلومات النظرية، بل كانت له زيارات ميدانية وتصحيحات لما ورد في الكتب والمعاجم.
وأختم «وكل الصيد في جوف الفرا» أنني زرت بلدته الأثيرة جلاجل بدعوة مع صحبة طيبة في منزله هناك وعلمت منه أنها سميت بذلك لصوت جلجلة المياه في أحشاء أرضها.
ولنا لقاء.