أ.د.عبدالرزاق الصاعدي
هل تعلم النساء أنّهن يلتقين في أناقتهنّ مع ذلك الكائن الصحراوي الذي نسميه الناقة؟ وأنهنّ يدِنّ لهذا الكائن بلفظ «الأناقة» تلك اللفظة الجميلة التي غدت شغلهنّ الشاغل، وإن كانت أناقتهنّ تُكبّد الرجال ما تكبّدهم من إنفاق المال، إلا أنها تعوّضهم ما تعوّضهم من لذّة الجمال، كما يقول عبدالحقّ فاضل.
إن التنقيب في اللغة والحفر في معجماتها يكشف عن العلاقة الوثيقة بين الناقة والأناقة، فالناقة عند العرب مما يُتحسّنُ به ويُزدان بملكه، كما يقول ابن جني، ولذلك اشتقّوا لمذكّرها لفظة مناسبة مشتقة من الجمال، فقالوا: الجَمَل. وقالت العرب للجمل إذا ذُلّل وأُحسنت رياضته: نوّقت البعير؛ أي: أذهبت شدّة ذكورته، وجعلته كالناقة الطيّعة المروّضة المنقادة. وفي الحديث النبوي أنّ رجلا سار مع النبي -صلى الله عليه وسلم- على جمل قد نوّقه.
ودرجت العرب على هذا المعنى حينًا، ثم قالت قياسًا على ترويض البعيروترقيق طبعه: نوّقت الشيءَ، بمعنى روّضته وأصلحته وصفّفته، والنوّاق من الرجال هو من يروّض الأمور ويصلحها. ثم توسّعوا في هذا المعنى فقالوا: تَنَوّق فلان في ملبسه ومسكنه ومنطقه وأموره؛ إذا تجوّد وبالغ.
وصاحَبَ هذا التطوّر الدلالي إحداثُ قلب مكاني في الكلمة، فقالوا: توّنّق، على وزن (تعلّف) ثم قلبوا الواو همزة فقالوا: تأنّق. ولهذا سوّى العلماء بين اللفظين «تَنَوّق» و»تأنّق»، وقالوا: تنوّق في أموره وشأنه إذا تجوّد وبالغ، مثل تأنّق، قال ذو الرُّمّة:
كأنّ عليها سَحْقَ لَفْقٍ تَنَوّقتْ
به حضرميّاتُ الأكفِّ الحَوالكِ
قال ابن فارس: وقولهم: تنوّق في الأمر، إذا بالغ فيه، فعندنا أنه منه [أي من مادّة نوق] وهم يشبّهون الشيءَ بما يستحسنون، وكأنّ تَنَوّق مقيس على اسم الناقة، وهي عندهم من أحسن أموالهم. اه.
وهكذا جاءت الأناقة من لفظ «تأنّق» وجاءت هذه من لفظ «تَنَوّق» وأصولهما واحدة، وهي: «النّاقة»
ولي دراسة قديمة في هذا الشأن عنوانها (تعميم الدلالة في ألفاظ الإبل) تناولت فيها أربعين كلمة متصلة بالإبل، تطوّرت دلالتها، لتعبّر عن حاجات العربي في مناحٍ متفرّقة من حياته، ومن تلك الألفاظ: البَرَكة، والجِران، والجاسر والجَسُور، والجَلَبة، ويحدوه الأمل، والحشو والحاشية، والحنين، والانحياز، والخجل، وخديجة، والمخضرم، والإرقال، والرَّكْب، وأخذ الشيء برُمّته، والراوية، والزَّعْم، والزميل، وتسنّم ذروة المجد، والسُّوق، والسائبة، والمشوار، والعشواء، والعاقل، وإلقاء الحبل على الغارب، والشواء، والاقتحام والتقحّم، والقطار، والكّوْم، والمجد، والمِنحة، والمال، والنتيجة، وندّت الكلمة، ونشدان الضالّة، والمنهل، والهدير.
وهكذا تغلغلت ألفاظ الإبل في لغة العربي الأصيل، بتعميم الدلالة أو تخصيصها، فإن انحسرت مكانة هذا الكائن الصحراوي في نفوس كثير من العرب بداعي التحضّر والاستغناء عنه، فإن مكانته لدى المنبعيين السعوديين لم تتزعزع قط، فنحن إلى اليوم نقتني الإبل ونعتني بها ونقيم لها المسابقات والمهرجانات ونجعلها جزءا أصيلا من حياتنا، وفي ذلك شيء من الوفاء وحفظ الجميل لهذا الكائن الأسطوري الذي حمل أجدادنا وحمل متاعهم وقاوم العطش في صحراء قاسية.