أ.د. يحيى بن محمد شيخ أبو الخير
تشهد الدراسات الفيزيوكونية تحت الذرية المعاصرة تطوراً غير مسبوق في مجال الرصد والتنظير والتفسير والتحليل العلمي للمادة والطاقة الكونيتين وتطبيقاتهما المتنوعة. ولعله من المناسب وصف ابتكارات العصر الفيزيوكوني التنظيري والتطبيقي تحت الذري الحالي والمستقبلي بعصر الذكاء الصناعي الروبوتي الموجه رقمياً والرقائق الإلكترونية وأشباه الموصلات التي قد تلعب جميعها دوراً نوعياً غير مسبوق في تحديد طبيعة الجغرافيا السياسية والاقتصادية للعالم وبلورة أنماطه الجيوستراتيجية والتقنية الثورية غير المألوفة. وعليه سيكون من الممكن عما قريب تشكيل شبكة لإنتاج منظومة للذكاء الصناعي بدءاً من تقليل البصمة الكربونية إلى علاج الأورام السرطانية ودعم أعضاء البشر كالدماغ بهذه التقنية وحقن مخ الإنسان كموميا بالذاكرة التي فقدت نتيجة حالات طارئة أو تقدم العمر. هذا بالإضافة إلى توظيف هذه التقنية مستقبلا في إنشاء منصات ذات أبعاد تنظيرية وتطبيقية ابتكارية في مجالات عدة كالمبيعات التنبؤية والرعاية الصحية والتطبيقات الطبية وتحسين جودة الاجتماعات الافتراضية والتعليم عن بعد وتحليل استهلاك الطاقة وتطبيقات التواصل والسلامة وبرامج التنمية بما في ذلك السياحة والترفيه. كما يمكن وصف هذا العصر بعصر الثورات الفيزيوكونية المتعلقة تحديداَ بتشييد المعجلات والمصادمات النووية العملاقة الفائقة المتناهية الطاقة التي تم وسيتم توظيفها لفحص دقائق المادة كالكواركات وأوتار النسيج الكوني واستنبات الطاقة واستحثاثها في الفضاء من حولنا. ولقد انتهى المجتمع العلمي فعلا منذ سنوات من إنشاء وتشغيل المعجل الخطى والسيكلوتروني والسنكروتوني والألكتروستاتيكي، وتشييد المصادم البيزو تروني الذي حل مكانه عام 2012 للميلاد المصادم الهادرونى الكبير العالي الطاقة. ويجري في المصادم الهادرونى تسريع الجسيمات بطاقة اندماجية تبلغ 14 تريليون إلكترون فولت وسرعة تقترب من سرعة الضوء لتصطدم تلك الجسيمات فيه بعضها ببعض، حسب التفصيل الذي استفاض فيه ماكس بيوست في الكتاب الشهير الموسوم «التصادم والتعاون»، إفرازاً لأدق الجسيمات ومنها بوزون هيجز على وجه التحديد. ويتهيأ العالم في المستقبل القريب لتشغيل المصادم النتروني المتناهي الطاقة الذي يزيد قطره عن 53 ميلاً وتفوق طاقته الدنيا عشرة مرفوعة للأس 19 إلكترون فولت أو ما يعادل عشرة مليون تريليون إلكترون فولت، حيث سيتم فيصدم حزمة من البروتونات بحزمة من الإلكترونات أو البوزيترونات لاكتشاف البنية الداخلية للبروتونات والكواركات. ويقف العالم اليوم على مشارف إنشاء المفاعل النووي الحراري التجريبي الدولي الذي يعد أكبر مفاعل يبنى في مرسيليا بفرنسا، حيث تعد الصين التي تمتلك أكثر من 50 مفاعلاً نووياً معلناً إحدى الدول الست المشاركة فيه والداعمة له. وسوف تنشئ الصين في أراضيها مفاعلها النووي الاندماج الذي صمم ليولد مجالاً مغناطيسياً قوياً قادراً على توليد بلازما تصل حرارتها إلى 150 مليون درجة مئوية أي ما يزيد عن عشرة أضعاف حرارة الشمس. وسوف يتم في هذا المفاعل الصيني تسخين ذرات الهيدروجين إلى ما يقرب من 200 درجة مئوية لتحويله بالدمج النووي إلى الهيليوم. وتسعى بريطانيا منذ فترة لبناء مفاعل توماك الكروي لإنتاج الطاقة بالدمج النووي الذي سيصبح جاهزا للعمل في عام 2040م. كما يأمل المركز الأوروبي للبحوث النووية «سيرن» في بناء مصادم ضخم في المستقبل المنظور بطول 100 كيلومتر وقوة تبلغ نحو ستة أضعاف مصادم هادرون الكبير الآنف الذكر.
وتصنف المعجلات النووية وفقاً لشبكة الفيزياء التعليمية إلى ثلاثة أصناف من حيث الطاقة المقاسة بالإلكترون فولت، الأول منها المنخفض الطاقة الذي تتراوح طاقته من 10 إلى 100 مليون إلكترون فولت والثاني المتوسط الطاقة الذي تتفاوت طاقته من 100 إلى 1000 مليون إلكترون فولت والثالث العالي الطاقة الذي تفوق طاقته 1000 مليون إلكترون فولت. وحسب الوكالة الدولية للطاقة الذرية تنتج المعجلات التي تزيد عن عشرة آلاف معجلاً نووياً في العالم الجسيمات كما تسرّع في الوقت نفسه حزما من الجسيمات المشحونة مثل الإلكترونات والبروتونات والأيونات على المستوى الذري ودون الذري بهدف توظيفها تطبيقياً في عدة مجالات مثل الصحة والرصد البيئي وجودة الأغذية والطاقة ومختلف الصناعات المدنية والعسكرية الفائقة وتكنولوجيات الفضاء المتقدمة وما شابه ذلك وانضاف إليه. وتتفاوت بطبيعة الحال أحجام هذه المعجلات وأشكالها فبعضها مستقيم أو خطي والبعض الآخر منها دائري، إذ يبلغ طول بعض الخطي منها عشرات الكيلومترات بينما يزيد طول محيط الدائري منها عن ذلك بكثير في حين تكفي، حسب الشبكة التعليمية المذكورة آنفاً، غرفة صغيرة لاحتواء البعض الآخر من تلك المعجلات.
ومن الجدير بالذكر الإشارة هنا إلى إن توظيف كل من المصادم الهادروني والنتروني الفائقيين الطاقة الوارد ذكرهما آنفاً ربما يساعد العلماء في القريب العاجل على إكمال صياغة نظرية الأوتار الفائقة التي ستوحد بين نظريتي النسبية العامة والكوانتم في حقل تنظيري واحد يؤدي في المستقبل المنظور إلى تغيير جذري لفهم مبدأ الزمكنة ووظائف القوى الكونية. ولهذا سيقوم العلماء بإجراء التجارب المتقدمة في مختلف المعجلات والمصادمات النووية ومنها على وجه الخصوص المصادم الهادروني وربما فيما بعد في المصادم المتناهي الطاقة بهدف فك شفرات الائتلاف بين البو زونات المكونة لجسيمات القوى المختلفة كالغليون والوكون والفوتون والجرافيتون والفرميونات كالإلكترونات والميونات والتاو والنيترينوهات ومختلف أنواع الكواركات. ويعتقد أن فك شفرات هذا الائتلاف سيحدد السبل الممكنة لاشتقاق نظرية الأوتار الفائقة عبر سبر أغوار الجرافيتون الجسيم الخاص بالجاذبية واصطياده إن صح التعبير لصالح توحيده بجسيمات الغليون والوكون والفوتون التي تتألف منها القوى الفيزيوكونية العالية والمنخفضة والكهرومغناطيسية على التوالي. كما سيشهد المستقبل -بإذن الله - تطوراً غير مسبوق لتطبيقات وظيفة بوزون هيجز الذي اكتشف في المصادم الهادروني وخاصة ما يتعلق من تلك التطبيقات تحديداً بعمق المجال الكتلي الذي عبرته المادة عند النشأة الأولى للكون أبان الانفجار الكبير. ويعتقد العلماء أن التعمق مستقبلاً في دراسات بوزون هيجز سوف يحل لغز مبدأ عدم اليقين الفيزيوكوني القابع عند طول بلانك. ومن المهم التنويه هنا إلى أنه بحلول عام 2030م سوف ترفع طاقة المصادم الهادرونى إلى 33 تيرا إلكترون فولت للكشف ضمن العديد من اهتماماته المستقبلية الأخرى عن المادة المظلمة ووظائفها الكونية. وسوف يسعي هذا المصادم آنذاك لسبر أغوار الجسيمات الأولية المكونة للكون والقوى المختلفة المؤثرة فيها وفي البناء الكوني وخاصة ما يتعلق تحديداً بتخليق الأبعاد الكونية والتأثير الكمومي لميكانيكا الكم ونظريتي النسبية الخاصة والعامة. إضافة إلى ما سبق سوف يساعد المصادم الهادرونى في المستقبل القريب في كشف الحجب عن الأسباب الكامنة وراء النقائض الجسيمية كالإلكترون والبيزو ترون على سبيل المثال لا الحصر وسبر أغوار الأسرار الكامنة وراء انكسار التناظر بين المادة ونقيضها. ولا يجب هنا إغفال دور كل من مكشاف أطلسلولب مركب الميون اللذين من المؤمل أن يكشف الأول منهما عبر المصادم الهادرونى الستار عن جسيمات نووية جديدة، بينما يكشف الثاني من خلال اصطدام البروتونات ببعضها البعض عن الميون تحديداً. إضافة إلى ما سبق ذكره، ستشهد الفيزياء جهوداً مستقبلية باهرة لكسر مبدأ التناظر أو التماثل الكلاسيكي الذي توظفه فيزياء هذا العصر في تفسيراتها لنشأة الكون وظواهره العملاقة المرئية وغير المرئية كالمادة والطاقة الداكنتين والدقائق النووية للبنيات الذرية الفيرميونية كالنيوترينو والميون والتاو والعوائل الكواركية المتنوعة ومكوناتها الوترية والبوزونات بأنماطها المختلفة الآنفة الذكر والثقوب السوداء والجمهرة النجمية المجرِية الآخذة في الاتساع بشكل مطرد. ونتيجة للتجارب المكثفة التي تجرى مستقبلاً في المعجلات والمصادمات الفائقة المتناهية الطاقة، سيحل مبدأ التناظر الفائق الذي يمكِّن علماء الفيزياء الكونية من ربط الفرميونات ببعضها بدلاً من ربطها بالبو زونات تحديداً كما هو الحال حسب مبدأ التناظر الكلاسيكي السائد في الوقت الراهن. ولذا من المحتمل أن يتمخض عن نتائج التجارب الذرية الفائقة التقنية في تلك المعجلات والمصادمات منظور فيز يوكوني ثوري جديد واستثمار ناجح للمادة والطاقة وفهم غير مسبوق للكون من حولنا وفقاً لنمط مفاهيمي جيواستراتيجي تنبثق عنه قفزات حضارية رقمية فوق صفرية تصاعدية المساق يشهدها تحديداً عدد قليل من الدول التي تمتلك بطبيعة الحال في المستقبل زمام تلك القفزات الثورية.
الجدير بالذكر هنا، أن الأطر المرجعية الفيزيوكونية المعاصرة قد أزاحت الستار عن سيناريوهات متعلقة بخرائط طرق متنوعة حَدّدَت فيها بعض الدول التي تتحكم في مستقبل تلك القفزات معابر انتقالها في المستقبل القريب من مستواها الحضاري الرقمي المشار إليه آنفاً إلى مستوى حضاري رقمي فائق التقدم والسيطرة والسيادة. ويتوقع مارتن ريز في كتابه «التحديات الكونية: هل نحن وحدنا وأين؟» أن العلماء بناءً على ذلك قد يتمكنون في السنوات القليلة المقبلة من إرسال أسطول من المجسات الفضائية إلى مجموعات شمسية أخرى تقع بعيداً عنا في أطراف هذا الكون الواسع. ولن تنتظر هذه الدول كثيراً بعد ذلك لتلج سريعاً في فضاءات حضارات فيزيوكونية رقمية غير مسبوقة الأمر الذي يؤدي إلى زيادة نهم سيطرة تلك الدول على كوننا، بل وربما على مليارات الأكوان الأخرى الموازية للكون الذي نعيش فيه. وتعد خرائط الطرق الإستراتيجية والقفزات الحضارية المشار إليها آنفا بلا أدنى شك امتدادا طبيعيا للحربين العالميتين الأولى والثانية والحرب الباردة بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية من ناحية والولايات المتحدة الأمريكية والصين من ناحية أخرى. كما تعد خرائط الطرق هذه امتداداً طبيعياً لفلسفة فوكو ياما عن نهاية التاريخ وهنتجتون عن صدام الحضارات وبرنامج حرب النجوم الذي لوحت به السياسة الأمريكية في السنوات القليلة الماضية ضمن خططها الرامية لعولمة كوكب الأرض وعلمنة فكره واستقطابه لصالح أيدولوجياتها المقيتة وديموقراطيتها الرأسمالية المزعومة الاستبدادية الإمبريالية التوسعية البغيضة التي تجلت وتتجلى في مساندتها للعدو الإسرائيلي المحتل الغاشم لفلسطين الذي أبيدت فيها ظلماً وعدواناً واستكباراً البشر والحجر والشجر والحيوان والطير.
ومن المرجح أن يكون مصير كل ذلك في المستقبل القريب هو التغير التكنولوجي الحاد الذي ستنعكس آثاره سلباً على التنمية السكانية والتخطيط والتعليم والطب ونظم الإدارة وحوسبة الاقتصاد والنظم الاجتماعية والعادات والتقاليد وربما على عقائد بعض الشعوب وأديانها. وقد يكون مصير ذلك كله بسط الدول التي تمتلك زمام التكنولوجيا نفوذها في أوطان خارج حدودها السياسية وبخاصة إذا ما تحققت لتلك الدول بعض القفزات الحضارية الفائقة التي أشرت إليها آنفا.