سهوب بغدادي
تداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي خلال الفترة الماضية مقطعًا لامرأة في إحدى البلدان العربية وهي تقوم بتوقيع أوراق إدخال والدتها لإحدى دور الرعاية المخصصة لكبار السن، ولقد تلقت السيدة وابلًا من النهر والملامة على أرض الدار أثناء توقيعها الأوراق وإتمام الإجراءات اللازمة، بالإضافة إلى الشتائم التي لحقتها في قسم التعليقات على المقطع، وكانت السيدة تكتفي بترديد «لا أستطيع رعايتها»، إن الموقف مهيب، ومحزن، ومؤسف حقًّا، حيث وصانا الله ببر الوالدين ورد المعروف لهما عند كبرهما، إلا أن بعض الحالات الشاذة لا تكترث بما كان من معروف، وتنكر كل شيء.
في إطار آخر، لو تخللنا شخصية السيدة هذه وأغلبية غير البارين، وحاولنا أن نسترجع بدايات العلاقة الكائنة بين الطفل والوالد، برأيكم، ماذا سنجد؟ هل سنجد العلاقة الوطيدة والانسجام التام؟ أم سيكون العنف، والتربية الجافة والإساءة والإهمال احتمالًا؟ نعم، لكل قاعدة شواذ بالطبع، إلا أن بعض الأطفال يكبرون ليردوا الإساءة بمثلها، فالطفل كان ضعيفًا وتم استضعافه من قبل الوالد صاحب السلطة، وعندما دارت الأيام وتحول الحال إلى ما كان محالًا أضحى ذاك الطفل في موطن والده، موطن القوة وانقلب حال الوالد إلى ما كان عليه طفله، فمن لا يخاف الله ينتهز تلك الفرصة لتفريغ أحزان وآلام الماضي ممن كان سببًا فيها، ويسقي الساقي من نفس الكأس ولو بعد حين، ولكن من كان يتحلى بالقيم والدين على الأغلب فلن يرد الإساءة بمثلها وسيداري آثار الماضي ببر أكبر وأعظم وتغافل وطي لفصول عميقة عالقة في أقصى الذاكرة، وذلك ما نراه في مجتمعاتنا المسلمة ولله الحمد، من بر وتكافل اجتماعي ورحمة بين الناس، بعكس المجتمعات الغربية، التي يشيع فيها فعل السيدة، ويعد خدمة يقدمها الابن لوالده بتوفير مكان ملائم له، على حد تعبير أحدهم، فما بدر من السيدة العربية لاقى ردود الأفعال الغاضبة باعتبار أن الفعل دخيل على ثقافتنا وديننا، وقد يكون هذا الحال مماثلًا لأوضاع كثيرة في حياة الشخص وعلاقاته، فهناك من يتخلى عن أطفاله، أو أهله أو أصدقائه، فمن وجهة نظر المطلع على الحدث يبدو الأمر مستنكرًا، ولكن قد يحمل الوضع في طياته خفايا لا ندركها، وفي حال عرفناها لقمنا بتغيير آرائنا احتمالًا، فقد يكون بقاء الأم العجوز في منزل ابنتها التي تحمل في صدرها حقدًا دفينًا أولى خطوات النهاية لتدمير الأم وتحميلها أوزار الماضي، وبتركها في ذلك المكان سترحمها مما قد يصدر منها من إساءة قولًا أو فعلًا أو كلاهما.
فيما يتعلق بالبر، فكان المشهد وسيظل مؤلمًا، ولكن يجب على الآباء في المقابل أن يسهلوا بر أبنائهم لهم ويعينوهم على هذا الأمر، بدايةً من التربية الحسنة ومخافة الله فيهم والتماس العذر لهم، وبالنسبة للابن فالبر ليس بالأمر السهل لذلك يستلزم الصبر، ومعرفة أن والديه قدموا أفضل ما لديهم والمتاح لهم من معرفة وأسلوب، فلا تدع دائرة الإساءة تستمر وتدور وتصل إلى أجيال قادمة، بل قم بإيقافها عندك وابدأ دائرة جديدة من الإحسان والتعامل الطيب والرحمة، فالحياة اختيارات.