د. عبدالحق عزوزي
توفي منذ أيام العلامة الفقيه والأديب الكبير سيدي عباس الجراري، رحمه الله. ولقد أحس الجميع يوم نعاه إلينا ناعيه بأننا فقدنا، أحد أبناء المغرب والوطن الإسلامي الذين أسدوا إلى وطنهم وأمتهم أعز وأنفس ما يسديه ابن بار، وضغطوا على التاريخ ورسموا على مسيله ومجراه طابع التأثير الذي يحدث التغيير، وحاجة الوطن ما زالت ماسة إلى وجيه رأيه وصائب نظره وجميل تأتيه، وحميد مسلكه ومسعاه {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً}، {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
فهو بحق من بين أولئك الذين ناضلوا عن أصالة بلدهم ووطنهم ووحدة لواء العروبة والإسلام، وسهروا على إرهاف وعي الخاص والعام وإزاحة رواسب ليالي المحنة والمرهقة بصراع القوى ومعترك المذاهب وصدام التيارات، ويظلون في موقعهم من ميدان الجهاد، حتى إذا توفوا بقوا أحياءً عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله، ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فمثله وإياه كما قال الراثي:
جلت رزيئته فعم مصابه
فالناس فيه كلهم مأجور
والناس مأتمهم عليه واحد
في كل جار رنة وزفير
ردت صنائعه عليه حياته
فكأنه من نشرها منشور
سيثنى عليك لسان من لم توله
خيرا لأنك بالثناء جدير
وعباس الجراري هو واحد من القلائل الذين مدادهم مروءة عربية، وبريقهم هو شمس العرب الحقيقية، التي تفهم الدين الإسلامي على حقيقته، وبناء الحضارة على حقيقتها؛ والجمال منهم فتان... وهو كان، رحمه الله، من حماة الضاد وسدنتها ورعاتها ومن أمراء العقل والسماحة والسلام وبناء الأسرة الإنسانية الواحدة والبيت المجتمعي المشترك، ومن فرسان ميادين قبول الآخر وقمة في التواضع... وكانت بيني وبين سيدي عباس وصلة الأخوة الصادقة، ووشيجة الوطنية الصافية، والكلمة الراقية، ومحتد الشهامة الأصيلة في قواسم العلم والانتماء الثقافي والتربية الأسرية... وعباس الجراري هو عالم مغربي موسوعي تنوعت مجالات إنتاجه من النقد الأدبي، إلى أدب الرحلة، والسيرة الذاتية، والشعر، والتراجم، وتاريخ الفكر والأدب، وقضايا الفكر الإسلامي.. ولد عباس الجراري يوم 15 فبراير/ شباط 1937 في الرباط، وهو من أسرة علمية، إذ يُعدُّ والده الأستاذ عبد الله الجراري من رواد الحركة الثقافية المغربية ومن كبار علمائها ومنذ صغري وأنا أسمع والدي العلامة الدكتور إدريس عزوزي، أطال الله في عمره، يتحدث عنه وعن علمه وشجرة العائلة المباركة، إلى أن شاءت الأقدار الربانية أن أصبحت علاقتي مع سيدي عباس علاقة الابن تجاه والده الروحي، يزورني وأزوره في بيته، ونقضي الساعات والأيام نجول في الفقه والأدب والسياسة والتاريخ...
وقد تولى عباس الجراري وظائف كثيرة ومناصب عديدة، حيث التحق بالسلك الدبلوماسي لسفارة المغرب في القاهرة عام 1962، وانضم إلى هيئة التدريس في جامعة محمد الخامس في فاس ثم في الرباط عام 1966. وشغل عضوية أكاديمية المملكة المغربية، وعينه جلالة المغفور له الحسن الثاني في الديوان الملكي في يناير/ كانون الثاني 1999، ورقاه جلالة الملك محمد السادس لمنصب مستشار ملكي في 29 مارس/ آذار 2000. ومن أراد أن يتوسع في ثبته، فيمكنه أن يطلع على كتابه «رحيق العمر، موجز سيرتي الذاتية ج1, النشأة والمشروع» تخليداً للذكرى التسعين لتأسيس النادي الجراري 1930 -2020 فالقارئ له سيعرف كيف وصل سيدي عباس إلى ما وصل إليه والمشقات التي واجهها وهو يتمثل قول الشاعر:
تريدين إدراك المعالي رخيصة
ولكن لا بد للشهد من إبر النحل
وإذا صح لي أن ألخص نجاحه، رحمه الله، في حياته المعطاءة، بناءً على معرفتي بإخوته، فإنه يمكن تلخيص ذلك في ثلاثة أسرار: توفيق الله عز وجل، الصبر، ونشأته في بيت علم ودين ووطنية؛ وفي هذا الصدد يقول في مقدمة كتابه الرائعة: «وإني لأود منذ البدء في هذا التقديم، أن أشير إلى أن نشأتي في بيت علم ودين ووطنية كان لها أكبر تأثير على مسيرة حياتي، وكان لي فيها الوالد رحمه الله هو القدوة والمثال. تضاف إليها حياتي الصحية التي جعلتني تلقائياً ومنذ طفولتي الأولى أصرف النظر عن كل ما يتعارض مع سلامتها، أو ما يبعدني عن اتباع القدوة وتحقيق المثال. وذلكم ما جعلني أعيش شبه سلوك صوفي، هو أقرب ما يكون إلى خمول ذهني لا أثر له في المظهر الخارجي إلا ما قد يكشفه الهم العلمي وما يتطلب بلوغ لذة المعرفة من جهود، قد تصادف ظروفاً تفرض اتخاذ مواقف سياسية تبدو بعيدة عن الهدف العلمي والثقافي، وكنت أرى أن الزهد فيما سوى ما يدرك به هذا الهدف هو أحد مفاتيح إدراكه؛ ومعه الصبر على تحمل المشاق (...) على ما كان فيها من تنقل والتي كان والدي، رحمه الله، يهونها عليّ وعلى نفسي بمثل قول المتنبي يخاطب ممدوحه الذي كان دائم الترحل:
كل يوم لك ارتحال جديد
ومسير للمجد فيه مقام
وإذا كانت النفوس كبارا
تعبت في مرادها الأجسام»
وللحديث بقية.