د. إبراهيم الشمسان أبو أوس
يعلل النحويون حدوث ظاهرة لغوية بأنه عوض من حدوث عكسها، فيظهر كأن ما حدث في إحداهما هو عوض مما حدث في الأخرى، أو هو اقتصاص، ولعل تعليلهم هذا دليل على غياب العلة المقنعة، ولذلك وصفها النحوي الجِهبِذ ابن مالك بالضعف(1). وقال أستاذنا كمال محمد بشر «وهو تعليل واه ضعيف»(2). ومن الأعمال السابقة في هذا الموضوع بحث «ظاهرة التقاص في النحو العربي»، كتبه دردير محمد أبوالسعود، نشر في مجلة الجامعة الإسلامية، السنة 16، العددان: 63-64 في رجب-ذوالحجة 1404هـ. الصفحات (157-167)، وبحث «علة التقاصّ أو المقاصّة في النحو العربي»، كتبه عبدالناصر إسماعيل عساف، نشر في «التراث العربي»، مج 32، ع 132، 133. عام (2014)، الصفحات (211-240) . وسأكتفي بإيراد أمثلة لهذا التعليل، ولعل من هذه المثل ما لم يرد في البحثين.
1-قلب الهمزة هاء وقلب الهاء همزة، قال ابن يعيش «والهمزة قد تُبدَل من الهاء، قالوا: (ماءٌ)، و(شاءٌ)، والأصلُ: مَوَهٌ، وشَوَهٌ، وكان ذلك لضرب من التَقاصّ لكثرةِ إبدال الهاء من الهمزة. ألا تراهم قالوا: «هِنْ فعلتَ فعلتُ»، والمراد: (إن)»(3).
2-إبدال التاء سينًا والسين تاءًا، فالفعل (استخذ) في قولهم (استخذ فلان أرضًا) أصله (اتّخذ)، «ثمّ أبدلوها من التّاء الأولى الّتي هي فاء افتعل من (تخذ) الّتي في قوله تعالى:(لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا) [77-الكهف] ، كما أبدلوا التّاء من السّين في: ستّ، معاوضة»(4). وأصل (ست): سدس، ماثلت الدال السين في الهمس فصارت تاءًا، وماثلت السين الدال فصارت أسنانية لثوية، فهذه مماثلة تبادلية.
3-قلب الهمزة علة، وقلب العلة همزة: «نحو: صحراء وخنفساء، تقول في جمعها: صحراوات وخنفساوات ... وإنما قلبوها حرف علة؛ لأن حروف العلة تقلب إلى الهمزة كثيرًا، فقلوبها إليها معاوضة»(5). ومثال قلب العلة همزة قائل في قاول، وبائع في بايع.
4- السكون في الأفعال مقابل الكسر في الأسماء، فإن حرك الساكن اختير له الكسر، إذ «الأصل في التحريك لالتقاء الساكنين هو التحريك بالكسر؛ لأن السكون في الأفعال المجزومة عِوَضٌ عن الكسر الذي في الأسماء المعربة المجرورة، فلما احتيج ههنا إلى تحريك الساكن كان الأَوْلى التحريك بحركة كان السكون عوضًا عنها على سبيل المقاصَّة والمعاوضة»(6).
5-تعليل استعمال اللام لنطق الألف، ذكر ابن جني أنهم لما توصلوا إلى النطق بلام التعريف الساكنة بأن قدموا قبلها ألفًا نحو: الغلام والجارية قدّم واضع الهجائية قبل الألف في (لا)، لامًا، توصلًا إلى النطق بالألف الساكنة، فكان في ذلك ضرب من المعاوضة بين الحرفين(7).
6- إبدال الواو من الياء، والياء من الواو: ذكر ابن عقيل أن الياء لامَ الاسم على بناء (فَعْلَى) تبدل واوًا بخلاف الصفة منه «نحو (تَقْوَى) وأصله (تَقْيا) لأنه من تقيت...ومثل تقوى (فَتْوى) بمعنى الفتيا و(بَقْوى)» وفي المقابل تبدل الواو لامَ الوصف على بناء فُعْلَى ياءًا بخلاف الاسم نحو «الدُّنيا والعُليا»(8).
قال الشاطبي «وكأنَّ هذا عند الناظم [ابن مالك] كالمعاوضة بين الاسم والصفة، فلما كان القلب في فَعْلي في الاسم ولم يكن في الصفة كان هنا [في فُعلى في الصفة]دون الاسم لضرب من المعاوضة»(9).
7-استعمال الوصف على بناء (فَعّال) بمعنى الوصف على (فاعل):
قال ناظر الجيش «وأشار [ابن مالك] بقوله: وقد يقام أحدهما مقام الآخر وغيرهما مقامهما، إلى أن المعاوضة قد تحصل بين فَعّال وفاعِل، وإلى أن غيرهما يقوم مقامها»(10)، ومثّل لذلك واستشهد، فمن قيام فعّال مقام فاعل: نبّال، أي: ذو نبل، وظَلَّام، أي: ذو ظلم، وسيّاف، أي: صاحب سيف، وترّاس، أي: صاحب الترس، وبغّال، أي: صاحب بغل، ومثال قيام (فاعِل) مقام (فَعّال): حائك، أي: حوّاك؛ لأن الحياكة من الحرف والصنائع(11).
8-جعل الفتحة علامة جر للممنوع من الصرف: وعدّ ابن الأثير ذلك «للمعاوضة من حملهم النصب على الجرّ في التثنية والجمع»(12). فعلامة نصب المثنى وجمع المذكر السالم الياء التي هي علامة الجر.
9-تستعمل (غير) بمعنى (إلا) وتستعمل (إلا) بمعنى (غير): الأصل في (غير) أن يوصف بها «وأمّا الفرع: فدخولها على (إلّا) في بابها؛ فيستثنى بها، وتعطى حكمها، كالمعاوضة لها عن دخول (إلّا) عليها في باب الوصف»(13). «تقول: قام القومُ إلّا زيدٌ، فـ(إلّا) صفة، كأنّك قلت: قام القومُ غيرُ زيدٍ»(14).
10- تكف (إن) عمل (ما) الحجازية، وتكف (ما) عمل (إنَّ): ذكر الزنجاني خمسة أمور تبطل عمل (ما) المشبهة بليس «أحدها: أن يفصل بينها وبين اسمها بـ(إنْ) المكسورة الخفيفة، تقول: ما إنْ زيدٌ قائمٌ ... وذلك لأن (ما) ضعفت بالفصل، ولأن (إنْ) الخفيفة تشابه (إنَّ) الثقيلة و(ما) يبطل عمل (إِنَّ) كقوله تعالى: (إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهُ وَاحِدٌ) [النساء: 171]، فأبطلت (إن ْ) عمل (ما) تقاصًّا بينهما»(15).
11-قد يستتر الضمير حينًا ويبرز حينًا للمعاوضة: يرى النحويون أن عمل الوصف فرع على الفعل وأنه لذلك يستتر فاعله الضمير إن كان جاريًا على ما هو له تقول: (زيد قائم) فالفاعل ضمير مستتر، بخلاف الفعل الذي يستتر فيه الضمير ويبرز، تقول: زيد قام، والزيدان قاما. وحين رأوا الوصف يبرز ضميره إن كان جاريًا على غير ما هو له عللوا ذلك بعلل منها أنه عوض بروز الضمير مع الفعل، نقل ناظر الجيش عن ابن أبي الربيع قوله: «فلمّا كانت الصفة إذا جرت على من هي له في المعنى يستتر فيها الضمير مطلقًا، ولم تكن كالضّمير في الفعل في الكمون والظّهور، واستتر في الصّفة في مواضع ظهر فيها في الفعل - جعلوها إذا جرت على غير من هي له يظهر ضميرها مطلقًا؛ ليظهر فيها في مواضع كمن فيها في الفعل، كما استتر في مواضع ظهر فيها في الفعل فكأن هذا معاوضة»(16).
12-حذف تنوين الواحد المعرف بـأل وبقاء النون في المثنى والجمع: ينتهي الاسم المعرب المتمكن تمكنًا أمكن بحركة وتنوين، ويرمز لهما بالكتابة بحركتين متماثلتين ضمتين أو كسرتين أو فتحتين (مسلمٌ، بمسلمِ، مسلمًا)، وأما المثنى وجمع المذكر السالم فتخلف الحركتين نون (مسلمان، مسلمون)، فإن عرف الواحد بأل بقيت حركة الإعراب وحذف التنوين (المؤمنُ القويُّ خير من المؤمنِ الضعيفِ)، وأما في المثنى والجمع فتذهب الحركة وتبقى النون (المسلمان، المسلمون)، قال الزنجاني «لضرب من التعادل والتقاص» (17).
13-كسر نون المثنى وفتح نون الجمع: قال الزنجاني «وجعلوا الكسرة التي هي أثقل من الفتحة مع الألف التي هي أخف من الواو، والفتحةَ التي هي أخف من الكسرة مع الواو التي هي أثقل من الألف للتعادل»(18)، ويقصد بالتعادل المعاوضة أو المقاصة وقد مرّ استعماله للتعادل قرينًا للتقاص في نصّ سابق.
(1) إيجاز التعريف في علم التصريف لابن مالك، ص: 163.
(2) دراسات في علم اللغة لكمال محمد بشر، ص: 117.
(3) شرح المفصل لابن يعيش، 3/ 76.
(4) البديع في علم العربية، 2/ 554.
(5) توجيه اللمع، ص: 98.
(6) شرح شافية ابن الحاجب لركن الدين الاستراباذي، 1/ 500. وانظر: شرح شافية ابن الحاجب للرضي الأستراباذي، 2/ 235.
(7) سر صناعة الإعراب لابن جني، 1/ 57.
(8) شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك، 4/ 226.
(9) شرح ألفية ابن مالك للشاطبي = المقاصد الشافية، 9/ 188.
(10) تمهيد القواعد بشرح تسهيل الفوائد لناظر الجيش، 9/ 4738.
(11) تمهيد القواعد بشرح تسهيل الفوائد لناظر الجيش، 9/ 4738.
(12) البديع في علم العربية لابن الأثير، 1/ 18.
(13) البديع في علم العربية لابن الأثير، 1/ 216.
(14) البديع في علم العربية لابن الأثير، 1/ 216.
(15) الكافي في شرح الوافي للزنجاني؛ مج1، تحقيق: محمود بن يوسف فجال، 1/ 503.
(16) تمهيد القواعد بشرح تسهيل الفوائد لناظر الجيش، 2/ 966.
(17) الكافي في شرح الوافي للزنجاني، 1/ 325.
(18) الكافي في شرح الوافي للزنجاني، 1/ 321.