أ.د. محمد خير محمود البقاعي
الفضول=Curiosity كما عرفتها الموسوعة الإلكترونية على موقع «رتروفايد» www.encyclopedia.com, Retrieved 1-5-2019
«سمة بشرية نستخدمها مدحا وذما: وهي الرغبة المفرطة في معرفة أمرٍ ما، فتتحرك رغبة العقل البشري تحركا طبيعيا لاستكشاف الأمر الذي حرك فضوله، وتستمر عملية التفكير حتى يقرر الشخص أن الأمر لا يستحق عناء التفكير، أو حتى يحصل على الإجابات والأدلة الكافية لفهمه، ويعد الفضول أمراً جيداً في حدّ ذاته إلا إن زاد عن حده، أو كان السعي وراءه لدوافع غير أخلاقية ترمي إلى إيذاء الآخرين». وسوغ الناقد الفرنسي الكبير رولان بارت Roland Barth (1915-1980م) في كتابه «لذة النص» حب الناس قراءة السير الذاتية بغريزة الفضول، وحب الناس الاطلاع على أسرار الآخرين، وطريقتهم في التفكير. وشذرة اليوم بوح عن طبقة من أفاضل الناس كان لي معهم لقاءات فكرية وثقافية، أغنت مسيرتي، وسددت بوصلتي؛ أولهم الصديق والباحث الذي لا أعدله بكثير من أصحاب الدال والرتب التي يبلغونها. إنه الصديق ومحب العلم والاستقامة والصراحة الأستاذ حسين محمد علوي بافقيه، كان عندما درس معي في مرحلة الماجستير في جامعة الملك سعود من ألمع الإعلاميين وأصدق النقاد وأكثرهم جرأة في قول الكلمة التي يراها، وإحاطة بجوانب الأمر ولبابه. درس إحدى مواد الماجستير النظرية معي وأعد رسالته للماجستير في جامعة الملك سعود عام 1424 هج/ 2004م بإشراف الأستاذ الدكتور منصور إبراهيم الحازمي، يحفظه الله، والدكتور الحازمي من أبرز النقاد السعوديين، حاصل على جائزة الملك فيصل العالمية عام 2001 م. وكانت الرسالة بعنوان: «تأثير الواقع الاجتماعي في النقد العربي الحديث في المملكة العربية السعودية 1343 - 1384هـ/ 1924 -1964 م». إن اهتمامات الأستاذ بافقيه وأبحاثه ومؤلفاته فيها كثير من المنهجية والرأي الحر العلمي القائم على تقص وتحليل، يتوخى الموضوعية بعيدا عن النوازع الشخصية التي يرمي إليها منتقدو منهجه وطريقته في النقد والتحليل والمراجعة، عرفته في الجامعة دارسا، وفي المناصب الإعلامية والثقافية التي تولاها ولم تغير في طبعه، وصفاء نفسه، وطيب جبلته شيئا؛ وهذا ما خبرته منه في المواقع كلها. وإن نسيت لا أنس حضوره الإنساني والعلمي برفقة أستاذنا عالم الاجتماع، الإنسان «أبو بكر أحمد باقادر» في ندوات الحج الكبرى؛ وهي ندوة عريقة تقيمها وزارة الحج إبان موسم الحج في مكة المكرمة منذ عام 1397هج/ 1976م. كان العصر الذهبي لهذه الندوة المباركة إبان وزارة معالي الأستاذ إياد أمين مدني يحفظه الله بمووعاتها وضيوفها، وبمتابعة من أستاذنا الدكتور باقادر يحفظه الله وحضور فاعل ملحوظ علميا وتنظيميا للأستاذ حسين بافقيه. كثيرة هي الذكريات عن حضوري ندوتين من تلك الندوات؛ تحمل أولاها الرقم (25) في سلسلة الندوات، وكانت في موسم حج عام 1422 هج / 2002 م؛ وعنوانها: «أدب الحج» وعنها صدر الكتاب الذي حرره البروفسور أبو بكر باقادر بعنوان: «الندوة الإسلامية الكبرى لموسم حج 1422 هج، أدب الحج، تحرير أ. د. أبو بكر أحمد باقادر، 1423 هج/ 2003 م). وثانيتهما ذات الرقم (27) المقامة في موسم حج 1424 هج/ 2004 م. وكان لحسين إبانها نشاط ما زال حاضرا في الذاكرة في التعامل والحوار مع كوكبة من مفكري العالم الإسلامي وأقطابه الفكرية. وفي هذه الندوة المباركة كان لقائي بالبروفسور، عالم الإناسة (الأنثروبولوجيا) والدراسات الإسلامية التونسي عبد الوهاب بوحديبة (1932-2020 م) رحمه الله، وكنت أعرف عنه أنه صاحب رسالة دكتوراه دولة في السوربون عنوانها بالفرنسية: «الإسلام والجنس» (Islam et sexualité)، ثم نشرت الطبعة الأولى في عام 1975 م، تحت عنوان «الجنس في الإسلام» (La sexualité en islam). ترجمة هالة العوري ط. 2، 2001 م. وفيها عادت المترجمة إلى العنوان الأول. ورأيت له كتابا آخر بالفرنسية، فريد في بابه، لم يترجم، وعنوانه: Abdelwahab Bouhdiba، LA CULTURE DU PARFUM EN ISLAM، SUD EDITIONS، 2017م، «ثقافة العطر في الإسلام» صدر عن دار الجنوب في العاصمة التونسية 2017 م. ووجدت له مراجعة ضافية للأستاذ عبد الرزاق القلسي في مجلة الرافد الإلكترونية، بعنوان: «سوسيولوجيا العطور في الحضارة الإسلامية» في كتاب «ثقافة العطر في الإسلام» لعالم الاجتماع عبد الوهاب بوحديبة». استفضت في الحديث عن هذا العَلم، مؤسس «بيت الحكمة»؛ وهي مؤسسة ثقافية تعنى بالترجمة والدراسات الحضارية في مدينة تونس لأنه كان ينبغي أن يكون هناك شخصية كالبروفسور باقادر ومعه صديقي بافقيه لدعوة مثل هذه الشخصية العلمية الباهرة، وغيرها من الشخصيات العلمية والفكرية التي احتضنتها الندوة في عصرها الذهبي. ولا أود الانتقال دون الإشارة إلى رئاسته تحرير مجلة «الحج والعمرة» واستكتابه كوكبة من الباحثين، وقد زرته في مقرها، وما تزال أعدادها إبان ذلك منهلا للعلم والرصانة. وفي مكاتبها التقيت بصديق قديم هو المربي الفاضل سبيع حمزة حاكمي (1940- 2021 م) رحمه الله، من مدينة حمص في سوية، كنت أتردد على مكتبته في حي جورة الشياح، كان من المحققين والباحثين الأجلاء قدرا وعلما، وله مشاركات مشهورة في تحقيق التراث، ونشر مجمع اللغة العربية له كتاب «المبسوط في القراءات العشر، لابن مهران الأصفهاني، 1987 م». كان لحسين مسار صحفي ثري، مشاركة وإدارة. ولكنه لم يجد نفسه إلا رفقة الكتب والقريبين من نفسه من أهل العلم. وكيف لي أن أنسى جهده في السعي إلى تكريمي عام 1426هـ في واحدة من أعرق ندوات المملكة إن لم تكن أعرقها بتقاليدها العلمية ومراسمها الباذخة وحضورها المتميز، وكرم صاحبها الشيخ الوجيه عبد المقصود خوجة رحمه الله (1925 - 2022م)، وقد شارك في جلسة التكريم تلك صديقان أثيران كان لأحدهما الأستاذ الدكتور فضل بن عمار العماري مكان شرف في هذه الشذرات، وسيكون لثانيهما الدكتور حسين المناصرة حديث مستفيض، وكانت الجلسة بإدارة الأستاذ حسين بافقيه وحضرها جمع غفير من أعلام المجتمع والفكر والثقافة والأكاديميين، من الجنسين. وأسعدني حضور القنصل الفرنسي في جدة الصديق الدكتور المؤرخ، والدبلوماسي المهتم بالكتابات الفرنسية عن المملكة العربية السعودية لويس بلان Louis Blin.
وقد قرأت هذه الأيام عن صدور طبعة جديدة من كتاب «الموشح» للمرزباني (أبو عبيد الله، محمد بن عمران بن موسى، 297 هج/ 910 م-384 هج/ 1984 م) فعادت لي الذكريات إلى باحث وشاعر وفنان، ذي خلق ودأب وإخلاص، إنه الدكتور محمد بن حمود حبيبي الذي تحمل ذكراه عبق زميل من أهل العلم والخلق، خذلتني الذاكرة، ولكنها ما لبثت أن أنارت لي الطريق إلى ذكراه. إنه الدكتور فهد بن عمر بن فهد بن سنبل. كان الدكتور محمد حبيبي حينئذ في مرحلة الدكتوراه، وكان مرشده الذي وضع معه خطة بحثه للدكتوراه بعنوان: «تأريخ القدامى للشعر إلى نهاية القرن الرابع: مدّونة المرزباني أنموذجاً». ولقد وجدت مقالة سيريه ثرية لأستاذنا أبي أوس إبراهيم الشمسان في عدد صحيفة الجزيرة الصادر بتاريخ 27 أكتوبر 2023، وهي حافلة عن صديقه العزيز وصديقنا الدكتور فهد السنبل، وهي مقالة لا مزيد عليها، تنضح حبا وودا وذكريات لا يمحوها مر الأيام. ما يجول في الخاطر هي تلك اللقاءات التي كانت تجمعنا في أحد مقاهي شارع العليا في الرياض مع الزميلين العزيزين الأستاذ الدكتور حسين عبد العزيز الواد من تونس، (1948-2009 م) رحمه الله، والأستاذ الدكتور حسن البنا عز الدين من مصر العربية يحفظه الله. وهما من أكابر أصحابنا مدة غير يسيرة، وسيكون لهما مكان في مسيرة الذاكرة عبر آفاق الرياض. وما تزال تمثيلات جلسات العلم والمؤانسة التي يثريها حضور أخينا الدكتور فهد بمعارفه المتنوعة الدقيقة، كان واسع العلم والخبرة بشؤون الكتب في كل ما يتصل بشؤون التراث، تاريخا وأدبا ونقدا، من المترددين سنويا على معرض الكتاب الدولي في القاهرة يقتني منه ما لذ وطاب من الكتب القريبة إلى نفسه التي تدخل برنامج قراءاته وتعاليقه التي كان للأسف يحتفظ بها، وتصدر عنه في جلساتنا أحكام ومعلومات يتردد صداها في النفس حتى اليوم، غضا طريا. كان فهد كما قال أبو أوس لا يوسع للمجاملة العلمية مكانا في نفسه، يضحك رزينا للطرفة في مكانها، استقبلنا في بيته غير مرة في إسكان الجامعة، فكان كان كما قال الأعشى: تجد عنده «خير نار عندها خير موقد». ولما حان موعد تقاعده غادر بهدوء، وافتقدنا نحن جلساته، وعلمه وسعة اطلاعه. وعلى وجه الخصوص في جلسات خطط طلاب الدراسات العليا للماجستير والدكتوراه التي كانت تمتد ساعات طويلة. ولا أشك أن خطة البحث المحكمة التي أشرف على وضعها لرسالة «تأريخ القدامى….» فتحت للدكتور محمد حبيبي طريقإنجاز متقن وطريف. فرقنا تقاعد الدكتور فهد، وكنت أتلقط بعض أخباره، وكل ما أرجوه أن يكون بصحة جيدة وأحسن حال.
ولا أجد ختاما لهذه الشذرة أكثر متعة من الحديث عن رفيق الأيام الطويلة المثمرة والجميلة في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة الملك سعود، وقد قضى فيه أكثر من 33 عاما في خدمة العلم والطلبة، حقق إبانها منجزا علميا يحق له ولمن يحبونه ويقدرون دأبه وبذله الوقت والجهد والمال لتحقيق ذلك أن يفكر به. كان طويل النفس صبورا، وكان شاهدا على كثير من الإنجازات العلمية لأصدقائه ولزملائه وللطلاب دون أن ينعكس ذلك على جديته وحزمه في مجال العلم والتعلم. كان الوقت يمر سريعا في مكتبينا اللذين يتناوبان على استقبال الطلاب والزملاء والزوار صباح مساء. ولن أبوح بأسماء الأبحاث والكتب والمشاريع التي جرى التخطيط لها في رحابة الأماكن والنفوس. هام الدكتور حسين عبد الله المناصرة بالسرد السعودي وحرص على دراسته وتحليله، وكان ينشر دراساته في دور نشر خارج المملكة سعيا للذيوع وابتعادا عن المح سوبيات. كان مشواره في «كرسي الأدب السعودي» في جامعة الملك سعود مديرا تنفيذيا بإدارة المشرف العام الأستاذ الدكتور صالح معيض الغامدي علامة بارزة في مشواره العلمي والإداري ناهيك عن كثير من الإنجازات العلمية التي يحق له ولمحبيه أن يفخروا بها في خدمة الثقافة التي أحبها. كان حسين شاهدا على كثير من مشاريع الترجمة والتأليف والتحقيق التي شهد مكتبي إنجازها، كان ناصحا مساعدا، نستمر في مكتبينا إلى وقت متأخر ليلا، ويتردد علينا زوار القسم من الطلبة والباحثين، وأكثر ما يرتبط بالذاكرة عنه أنه شهد إنجاز عملي الذي استمرّ سنوات في تحقيق كتاب: «الأمالي من الفوائد والأخبار» لأبي القاسم (عبد الرحمن بن إسحاق الزَّجاجي (339 -340 هج) دار الغرب الإسلامي، بيروت (1442 هج/ 2021 م). وكنت بدأت مشروع إخراجها في عام (1423 هج/ 2003 م). وكان يرأف بي للساعات الطويلة التي لا أغادر فيها مكتبي وراء جهازي فيحمل إليّ بعض ما ينعش النفس ويرمم الهمة من مأكل ومشرب، ثم نتجاذب أطراف الحديث. كان يفرح بإنجازات أصدقائه وكأنها في رصيده. كنت أقول: «عندما تواجهني مشكلة أستشير المناصرة وأفعل العكس» فيضحك من أعماقه، ولا يترك ذلك إلا مشاعر الود والصداقة. ما تزال عرى المودة موصولة عبر وسائل التواصل. يذكّر أحدنا الآخر بما يسر الخاطر، ويبهج الأصدقاء، ويوغر صدور الهامشيين الذين لا يملكون إلا بعض ما وفرته لهم الموافقات ليكونوا أصحاب قرار مغلف بأسمال الوهم والتخيل، واختراع نوعمن المجد المتوهم، وهم يعلمون شأنهم شأن كثير من المحيطين بهم حقيقة الأمور التي تضمرها السرائر المريضة. ولن أختم هذا البوح الصادر من أعماق النفس بلا تزيد أو تجن دون أن أذكر سعيدا إعجابه بالكتاب الجامع الذي ترجمته، ونشرته الهيئة المصرية العامة للكتاب/دراسات أدبية إبان إشراف أستاذنا الدكتور صلاح فضل رحمه الله (1938-2022 م)، «الرواية في القرن العشرين للناقد ومؤرخ الأدب جان إيف تادييه 1998 م. حصل حسين على الدكتوراه في النقد الأدبي الحديث من معهد البحوث والدراسات العربية في القاهرة في 2001 م، برسالة عنوانها: «المرأة وعلاقتها بالآخر في الرواية الفلسطينية،
دراسة نقدية»، سارع في نشرها وصدرت في بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2002 م، وكانت بإشراف الأستاذة الدكتورة نبيلة إبراهيم (1929-2017 م) رحمها الله.
أشعر وأنا على مشارف إنهاء هذه الشذرة بموكب من السعادة يطوف في أنحاء النفس التي تلتقط مباهج العلم والحياة لتكون معينا على مرور الأيام بعد أن منَّ الله علينا بما لا نستطيع رده لهذه البلاد وقيادتها وشعبها حفظ الله الجميع. ولنا لقاء.