أ.د.صالح معيض الغامدي
كانت كتابة السيرة الذاتية في المملكة العربية السعودية لفترة طويلة حكراً على الرجال، مما حدَّ من شيوع السرود الذاتية وتنوعها. وظلت تجارب المرأة السعودية، بما تواجهه من تحديات وطموحات وضغوط مجتمعية ناقصة التمثيل. وإدراكًا لهذا التفاوت الصارخ، شرعت بعض الكاتبات السعوديات في رحلة جريئة لكتابة السيرة الذاتية وإعادة تعريف هذا النوع الأدبي من خلال إنتاج بعض النماذج السيرذاتية الجديدة المختلفة.
ويعد التجريب الذي مارسته بعض الكاتبات السعوديات في هذا المجال خطوة مهمة نحو إعطاء صوت خاص لتجارب كاتباتها، ومعالجة القيود المجتمعية التي كن يواجهنها، وتحدي الصور النمطية المتأصلة عنهن في المجتمع. ومن خلال الابتعاد عن السير الذاتية التقليدية الكرونولوجية التي يكتبها الرجال، حاولت بعض الكاتبات السعوديات ابتكار أو ابتداع أشكال وسرود جديدة تتوافق مع وجهات نظرهن وظروفهن واهتماماتهن الخاصة.
إن أحد جوانب السير الذاتية التجريبية للنساء السعوديات هو استكشاف أساليب كتابية مختلفة. فغالبًا ما تدمج الكاتبات عناصر من الخيال والشعر لصياغة سرودهن الشخصية. وهذا المزج بين الأنواع يسمح بتمثيل أكثر دقة لتجاربهن الحياتية، مما يمكّن القراء من التعاطف والتواصل مع قصصهن على مستوى أعمق. ولعل الحيرة والإرباك الذي سببه هذا التنويع الكتابي الذاتي هو ما جعل مسألة تجنيس نصوصهن تبدو مربكة في بعض الأحيان عند بعض الدارسين كما هو الحال مع النصوص الذاتية لهدى الدغفق (أشق البرقع أرى، متطايرة حواسي، أنشر قلبي على حبل الغسيل) وهند المطيري (سيرة الحب: ذات غيرية) على سبيل المثال.
ومن مظاهر التجريب في السير الذاتية النسائية السعودية التركيز على التجارب الجماعية للمرأة وتسليط الضوء عليها. فغالبًا ما تنسج الكاتبات قصصهن الشخصية في نسيج أوسع من النضالات والإنجازات والتطلعات المشتركة للمرأة السعودية ككل. ومن خلال القيام بذلك، فإنهن يخلقن صوتًا جماعيًا، ويمكّن أنفسهن وقرائهن، ويعزّزن الشعور بالوحدة والتفاهم. ولعل أهم ما يمثِّل هذا الإستراتيجية التجريبة روزنامة: أيام نتداولها» لصباح أبوعزة وأخريات، و»ومضات سيرية.. سرد سيرذاتي لكاتبات سعوديات» جمع وإعداد الدكتورة نوال السويلم. ولذلك تكتسب هذه السرود الذاتية قيمة نضالية ونشاطاتية للدفاع عن حقوق المرأة ودورها الذي ينبغي أن تؤديه في مجتمعها.
وهذا التجريب لا ينفي أهمية السيرة الذاتية التقليدية؛ بل إنه يكمل هذا النوع ويوسعه. ومن خلال دمج عناصر التجريبية بالتقليدية، تقدم الكاتبات السعوديات وجهات نظر جديدة تعزز جسد أدب السيرة الذاتية، وتعزز نسيجًا غنيًا من قصص الذات المتنوعة.
ويمكن تلخيص أهم جوانب التجريب السيرذاتي لدى الكاتبات السعوديات فيما يلي:
1- تُكتب السيرة الذاتية النسائية في الغالب اضطراراً وليس اختياراًً كما يحدث في كتابة السيرة الذاتية الرجالية، ويبدو هذا الاضطرار واضحاً في مظاهر التردد التي تبديه كثير من هؤلاء الكاتبة في كتابة سيرهن، كما سبق أن أوضحت ذلك في ورقة سابقة كتبتها حول السيرة الذاتية النسائية السعودية.
2- تتحدى السير الذاتية النسائية بشكل واضح معايير السرد التقليدي من خلال التخلي عن البنية الخطية الكرونولوجية التقليدية. وعوضا عن ذلك، فإنهن يتبنين نهجًا مفككا، حيث يتم عرض الحكايات والذكريات بشكل غير خطي. وهذا التفكيك يسمح للنساء بتحدي القواعد السائدة في سرد قصص الحياة، وفصل أنفسهن عن الأدوار والتوقعات المحددة المفروضة عليهن.
3- تركز الكاتبات السعوديات في سيرهن على الكتابة الشذرية والعلائقية، وذلك لنقل تجاربهن بشكل فعَّال، إذ يسلطن الضوء على الجوانب التي تربطهن بالأسرة والمجتمع . ومن خلال تشابك السرود الشخصية مع تجارب مجتمعية أوسع، تؤكد هؤلاء النساء على النضال الجماعي من أجل حقوق المرأة وتحريرها وتمكينها. وبالتالي، يصبح التشظي والتشذير أداة فعَّالة لالتقاط التعقيد والترابط في حياتهن، وكذلك لتفادي السرد الكرونولجي وإكراهاته الكثيرة كالاضطرار إلى ذكر العمر وتجارب الزواج.. وغيرها من الموضوعات التي لا تفضل أو لا تهتم المرأة بذكرها.
4- توظف اللغة المجازية أحيانا كوسيلة للتمكين، فاللغة المجازية تلعب دورًا محوريًا في بعض السير الذاتية النسائية السعودية، كما نرى في أعمال هدى الدغفق السيرذاتية الثلاثة، وسيرة «أربعون: في معنى أن أكبر» لليلى الجهني، وذلك من خلال استخدام الاستعارات الحية، التي تعبر ببلاغة عن مشاعرهن، متجاوزات قيود اللغة الحرفية. كما تسمح لهن الاستعارات بنقل فهم أعمق لتجاربهن، وتضخيم أصواتهن وتوجيه السرد بصور قوية خدمة لرؤاهن.
5- من أبرز وظائف السيرة الذاتية النسائية الدفاع عن الحقوق وتأكيد الهوية. فالسير الذاتية النسائية السعوديات تعد بمثابة شكل من أشكال المقاومة ضد النظم والتقاليد الأبوية السائدة، وذلك للدفاع عن حقوقهن والمطالبة بالاعتراف بهن، من خلال توظيف الأسلوب التشذيري والحكايات والتجارب المنتقاة بعناية.
6- تحاول بعض السيرة الذاتية النسائية إعادة تعريف المنظور الاجتماعي وذلك بتوفير أبعاد جديدة له، حول مكانة المرأة في المجتمع والأدوار التي يمكن (أو ينبغي) أن تقوم بها، والقدرات التي تمتلكها. ومن خلال مشاركة هؤلاء الكاتبات قصص حياتهن مع أفراد المجتمع، فإنهن يهدفن إلى كسر الصور النمطية المتعلقة بالجنسين وإلهام الآخرين، مما يمهد الطريق لظهور مجتمع أكثر شمولاً وعدالة.