د. عبدالحق عزوزي
قلت في مقالتي السابقة إنه كانت بيني وبين المرحوم العلامة عباس الجراري، صلة الأخوة الصادقة، ووشيجة الوطنية الصافية، والكلمة الراقية، ومحتد الشهامة الأصيلة في قواسم العلم والانتماء الثقافي والتربية الأسرية.
عباس الجراري رحمه الله، كان نهراً من العلم المتدفق، ورمزاً من رموز العطاء الفكري والأدبي، ومورداً عذباً لكل متعطش إلى المعرفة والثقافة بمختلف فروعها.
وهو عالم شرف المغرب وحق أن يوضع اسمه ضمن جهابذة العلماء الكبار الذين سجلوا أسماءهم بحروف من نور في سجل التأليف والتنقيب والترحال ومكارم الأخلاق؛ وقد كان صاحب مشروع بأتم معنى الكلمة، وهو من شجرة طيبة، شجرة العلم والفكر، أصلها ثابت وفروعها في السماء جنت منه البشرية أكثر من 50 تأليفاً، وقد كان حبيب الجميع، فذاً عاشقاً لتراث أمتنا، مثابراً على إحياء هذا التراث والمحافظة عليه بكل الإخلاص والتفاني. وكان قد أسرّ إليّ المرحوم عبدالهادي التازي في حديثه عنه أنه عرفه أولاً فتى يخدم والده المبجل العلامة عبد الله الذي عن طريقه عرفنا كيف نقرأ تاريخ المغري بطريقة حداثية. وكان أساتذته يقولون عنه «إنه سيكون من أمره ما يكون»، وبالفعل فقد أمسى عباس يطل على معارج الكمال، وقد حضر الناس له مجالس علمية كان فيها شامخاً متفوقاً على الذين كانوا يهابون اقترابه من موقعهم أو اقتحامه، وكان الرجل يخطو خطواته في تؤدة وثقة بالنفس عالية وبتواضع جم وأريحية منقطعة النظير.
وكان بعض المعاصرين يتوجسون من فكر عباس الجراري، وزاد عباس الذي كان ينمو ويربو باستمرار، وفي توازن وتنوع، وعمق يغبط عليها. نقف على هذا التوازن وهذا العمق في تدخلاته الطارئة التي لم يسبقها تحضير، نقف على ذلك في تآليفه وفي محاضراته. كان رحمه الله يقضي أياماً عندي في البيت في العطل الصيفية هو وزوجته الأستاذة حميدة الصائغ، وبمعية زوجتي الدكتورة أسماء العلوي وأولادنا عثمان وجنة ونهى حفظهم الله وحفظ الله كل أبناء المسلمين، وهذا تواضع من العلماء الكبار.
وكنا نقضي معهما أياماً هي أفضل أيام العمر نتحدث عن المذاهب والشعر والتاريخ والأدب والفقه والتفسير، فرأيته كما هو ذاك الجوهري الذي يزن الدر بالقيراط في سبيل صوغ حلى عربية عالمية تزين جيد الزمان، وذات مرة، بعد رجوعهما إلى الرباط، جاد المرحوم عباس عليّ وعلى عائلتي بهاته القصيدة:
فاسٌ لَعَمْري عَلى البُلدانِ تَزْدانُ
في طَيِّها كُلُّ ما يَسبي وسلوانُ
إِن قالَ سَاكِنها فيهَا مَرَاتِعُهُ
وفي ثَراها لَهُ زَهْرٌ وَرِيحَانُ
وفي السَّواقي الزُّلالُ العَذبُ مَشربُهُ
يَشفي العَليل ويَرْوَى مِنهُ ظَمْآنُ
وَفي أَزِقَّتِها عِطْرٌ يُؤرِّجُهَا
وَفي مَنازِلِها حُورٌ وَوِلْدانُ
وَفي جَوامِعِها عِلْمٌ ومَوعِظَةٌ
وَفي صَوامِعِها ذِكرٌ وَإيمَانُ
وَفي مَدافِنِها أَعْلامُ مَعْرِفَةٍ
وَفي مَتاجِرِها دُرٌّ ومُرجَانُ
فَاسٌ بِهذا خَيْرُ جَوهَرةٍ
تُرَصَّعُ الوَطَن الغَالي لها شَانُ
أَقولُ: دَعْني مِنْ ذا إِنَّ لي هَدَفًا
أَهْفو إِلَيْهِ وَإنِّي مِنْهُ نَشْوانُ
إِني مَشوقٌ إلى أَهْلي أَزُورُهُمُ
لَدَيَّ في حُبِّهِمْ مَعنى وَعُنوانُ
فَلَسْتُ أَسْلو بها إلا بِرِفْقَتِهِمْ
فَهُم على هَامِها فخَرٌ وتِيجَانُ
هُمُ الصَّحْبُ عِندي في مَرابِعِها
إِن عَزَّ مَن يُصْطَفى فيها وَخِلاَّنُ
فَعَبْدُ الحَقِّ في النُّبَغَاءِ فَرْدٌ
فِكْرٌ حَديثٌ وَعِلمٌ ثُمَّ قُرآنُ
يَكفِيه مَا شَهِدَتْ فاسٌ بِخِدمَتِهِ
هِي الدَّليلُ إذا يُحتاجُ بُرهَانُ
وَأَسْماءُ المَصونَةُ خَيْرُ زَوجٍ
في المَالياتِ لها بَاعٌ وإتِقانُ
ورَبَّةُ البَيتِ فيهِ بِابْتِسَامَتِها
يَغْشو السُّرورُ وتَنْفى عَنْهُ أَحزانُ
وَ«جَنَّة» لا تَسَلْ كم هي مُسْعَدَةٌ
إذا شَدَت أو تَلَت فَالجَمعُ فَرحانُ
وكالعَروسِ عَروسِ البَحرِ إن سَجِتْ
وَإنْ شَكَت أَو بَكَت فالكُلُّ حَيْرانُ
والشِّبْلُ مِن أُمِّهِ قَد حَازَ ضُحْكَتهَا
وَيَستَجيبُ لمن نَادَاهُ (عُثمانُ)
إليهم تَحيَّاتي مع «حَميدَتي» في
حُسنِ الثَّناءِ وهَل يَكفِينا شُكرانُ
لَعلَّنا عَن قَريبٍ في الرِّباطِ نَرى
مُرَحَّبينَ بِهِمْ فَالشَّوقُ نِيرانُ
ثم اطلع على الأبيات شاعر عربي متمكن، الأستاذ خليل عيلبوني، فجادت قريحته بأبيات بنفس القافية يقول فيها: قَرأتُ بالحُبِّ مَا قَد خَطَّ فَنانُ
لَهُ عَلى الشِّعرِ أَحْكامٌ وَسُلطانُ
إِنَّ الجِراريَّ عَبَّاسا إِذا انْطَلقَتْ
خُيولُ أَحْرُفِهِ لم يبقَ فُرسَانُ
أَتى إلى فاسَ مُشْتاقًا بِه طَربٌ
وَكَم تَغَنَّى بِفاسِ الحُبَّ عُربانُ
وكانَ بَيتٌ لِعبدِ الحَقِّ مُنتَظِراً
تَرنُو لِزائِرهِ بالحُبِّ جُدرانُ
وَكم تَرقَّبَ عَبدُ الحَقِّ زائِرهُ
كَما تَرقَّبَ عَذبُ المَاء ظَمآنُ
حَتَّى أطَلَّ كَشَمسِ الصُّبحِ فابْتهَجتْ
قُلوبُ مَن هُمْ لِذاكَ البَيتِ سُكَّانُ
أَسماءُ قَامتْ وبِشرُ الوَجهِ يَسبِقُها
تَقولُ: يا مَرحبا والقَلبُ فَرْحانُ
ورَحَّبتْ «جَنَّةٌ» بالزائِرينَ ومَا
أَخَفى الحَفاوَة والتَّرحيبَ «عُثْمَانُ»
عَبَّاسُ أهلاً بِكُم مَعكم حَميدَتكُمْ
هذي زِيَارتُكُمُ بِرٌّ وإحْسانُ
وَفاسُ تَزهُو بِكم تَصْبُو لِرُؤْيتكِمْ
فِيها لكُم سَيدي أَهلٌ وخِلاَّنُ
وكَم نظَّمتَ لهَا شِعراً يخَلِّدُها
وإِني مِن حُميَّا الشِّعرِ نَشْوانُ
فأنتَ لِلمغْرِبِ العَربيِّ مُعْتمدٌ
سَفيرَ حُبٍ لَه بَينَ الوَرَى شَانُ
أَعْطَيتهُ العُمرَ لم تَبخَلِ عَليهِ بِما
أعْطاكَ مِن نِعمِ الإِبداعِ رَحْمانُ
يا وَجهَ شَعبٍ عَريقٍ في أصَالتِهِ
بِه يُطِلُّ على الإنْسانِ إنْسانُ
أَنا ونَجلُكَ «عَبد الحَقِّ» نُعلِنُها
إِن جَاز في الحُبِّ إِشْهارٌ وإِعلانُ
نَقولُ: أَهلاً وسَهلاً دَائماً أبداً
في كُلِّ دَربٍ لَكُمْ وَردٌ وَرَيْحانُ
لَكُم على فاسَ فضْلٌ ليسَ يُنكِرُهُ
شَعبُ وَفِيٌّ وَما لِلفَضلِ نِسْيانُ
فالله أسأل أن يرحم عباس الجراري ويسكنه فسيح الجنان.