د.محمد بن عبدالرحمن البشر
أحداث غزة التي راح ضحيتها نحو ثلاثين ألف مدني من غزة، يزيد عددهم كل دقيقة، وأصبحوا في حصار منعت عنهم به مقومات الحياة، فلم يعد هناك غذاء يكفي، ولا ماء يروي، ولا دواء يشفي، أوجاع وآلام، وتقطيع أجسام، وهدم دور، وسير على القبور، ولا حول ولا قوة إلا بالله، لم يعد لدى هؤلاء العزل مأوى، ولا مكان سكنى، يفترشون الأرض، ويلتحفون السماء، ويقتاتون من بقايا طعام يحضّرونه في العراء، هذا إذا ساعد الطقس، يتساوى في ذلك طفل رضيع، وشيخ كبير، وشاب كان يتطلع إلى مستقبل زاهر، فإذا هو يبحث عن لقمة عيش، تؤجل وفاته بضعة أيام، فإذا لم يمت جوعاً أو ظمأ، فقد يموت بمرض لا يتوفر له علاج، أو قنبلة تسقطها طائرة من طائرات لا تفارق سماء المكان، لتساوي بالأرض مباني مرتفعة مكتظة بالسكان، فلا فرق هناك بين إنسان وحجر، أو ربما يموت بمدفع يرمي بقنابل كالقصر، كأنها جمالة صفر، أو دبابة وجرافة، تهدم ما يصل إليه جنزيرها، وما يطوله مدفعها، وبين ناظري سيدة كريمة، تقول عن حالها، وحال أقرانها، نحن هنا لا نعيش، وإنما نتنفس، حتى نبقى على قيد الحياة.
في خضم هذه المآسي، والوضع القاسي، تصدر بعض الدول بيانات لمواقفها حيال ما يجري، ويتفوه البعض من المسؤولين بغريب الكلام، الذي لا يصدقه العاقل أو السقيم من الأنام، فهناك من شبه بشراً أسوياء تماماً مثله بأنهم أشباه البشر، ولا أعلم ما هو المعيار الذي بنى عليه نعته لهم، هل هو زهو، أم اعتقاد بالتفوق العرقي، أم هو التفوق التقني والمادي فقط، فالأيام دول، فإن كنت تملك اليوم بعضاً من مفاتيح التقدم العلمي، والرخاء المادي، والتأثير السياسي، فقد سبقك إلى ذلك أمم كثيرة، فتذكر الحضارة السومرية والبابلية والآشورية، واليونانية والفارسية والفينيقية والمصرية والحيثية والرومانية والهندية والصينية وحضارات أمريكا الجنوبية، وختام مسك الحضارات الحضارة الإسلامية في المشرق وفي الأندلس، التي كانت القاعدة التي بنيت عليها حضارة هذا الزمان، فمعظم التقنية مبنية على الخوارزميات وهي من صنع الخوارزمي، وجابر بن حيان صاحب الجبرا. ولا ينسى ذلك المصرح أن أجداده قد عاشوا في كنف الحضارة الإسلامية مكرمين، يستفيدون من الحضارة، ويشاركون فيها، كبشر أسوياء يحظون بكامل حقوقهم وحمايتهم.
تصريح آخر لمسؤول يستشهد فيه بجملة من كتاب يبيح به قتل الأطفال، والنساء، والماعز، والكلاب، والحمير، وآخر ينظر إلى خصومه كأنهم رعاع لا يفقهون شيئاً، وآخر على رأس الهرم يصرح بأن الشعب الفلسطيني الذي عاش على أرضه آلاف السنين ليس له حق في فلسطين، ولن يسمح بقيام دولة فلسطينية، وهذا مخالف للقانون الدولي، وقرارات الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، والاتفاقات المبرمة، وأيضاً يخالف جميع مواقف دول العالم دون استثناء، ومن الغريب أن التصاريح الرسمية لبعض الدول رداً على ذلك لم تكن واضحة، كقولهم نشعر بخيبة الأمل على فعل يعرفون أنه يستوجب الإدانة، لكنهم ينتقون الجمل التي تسمح لهم بعدم أخذ موقف صريح، ومثلها نشعر بالقلق، أما نحن فلا نعلم متى سينتهي القلق، ربما في الدقيقة التالية للتصريح، ومثله قولهم لا أعتقد أن ذلك مناسباً، جملة لا تعني شيئاً لكن لا بد لهم من أخذ موقف، ومثله نشعر بالحزن، أي حزن هذا الذي يتم الحديث عنه من قبل دول فاعلة تستطيع التأثير على كثير من الأحداث. وتصريح آخر من دولة فاعلة سوف نتفاهم مع أصدقائنا حول الموضوع، مع أن هذا الطرح يناقض تماماً طرحهم المبني على قيام دولتين.
في الوقت ذاته نسمع ونقرأ مواقف وتصاريح لهذه الدول حول أحداث في مكان آخر من العالم، تحمل في كلماتها أشد العبارات وأقسى الألفاظ، وأقدح اللوم، وتتخذ قرارات عملية تطرح في مجلس الأمن، وتمد جانب بعينه بالمال والسلاح، وتبرر ذلك بالدفاع عن النفس، بينما في الجانب الآخر تعطف على الذي احتل أرض غيره، ويريد تهجيرهم إلى دول أخرى، أو بناء جزيرة صناعية لتهجيرهم إليها، وترجوه أن يتكرم بشيء يسير يعيده إلى صاحب الحق. في خضم هذه الأحداث تتخذ المملكة موقفاً واضحاً من الأحداث، وبلغة دبلوماسية رصينة أن أي إمكانية للتطبيع مرهونة بإقامة دولة فلسطينية ذات سيادة وقابلة للحياة، وأن يكون هناك مسار شامل لسلام يعم المنطقة، يبدأ بوقف إطلاق النار الذي ذهب ضحيته حتى الآن أكثر من ثلاثين ألف من سكان غزة، والعالم يعلم أن موقف المملكة ركيزة أساسية لا يمكن تخطيه لمعالجة مشاكل المنطقة، وموقف المملكة ثابت في الوقوف إلى جانب الفلسطينيين حتى حصولهم على حقوقهم المشروعة، وكان هذا الموقف واضحاً قبل أحداث غزة وبعدها ولو أن المجتمع الدولي أخذ بما تطرحه المملكة منذ فترة لتلافى الكثير من المشاكل والتعقيدات، وفقد الأنفس والممتلكات، كما أن تصريح المملكة المتعلق بقرار محكمة العدل الدولية القول بأنها تؤيد قرارات المحكمة الدولية وما صدر من المحكمة، كما تؤكد رفضها القاطع لممارسات الاحتلال، وأجزم أن موقف المملكة أقوى من كثير من الأسلحة المادية والسياسية الأخرى، وهو موقف متوازن، وواقعي، وفعَّال، يحفظ للفلسطينيين حقوقهم طبقاً للمعطيات والواقعية.