أ.د. محمد خير محمود البقاعي
كان ارتباطي بأدب ما قبل الإسلام (الجاهلي) يعود في جانب كبير منه إلى دروس أستاذنا الدكتور عبد الحفيظ السطلي (1936 -2021م) رحمه الله، وبراعته في تقديم ذلك الأدب بحلة مغرية لمن لديهم استعداد للفهم والتذوق. ذكرني بذلك أن جل زملائي الذين التقيت بهم في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة الملك سعود كانوا يعرفونني قبل وصولي من عملي في جمع وتحقيق ديوان الشاعر الفارس «دريد بن الصمة» من غزية من جشم من هوازن من بكر. مات مقتولا في غزوة حنين (8 هج/630 م)، في قصة عجيبة، وهو صاحب الدالية السائرة في رثاء أخيه عبد الله، وسماه فيها (خالد ومعبد) ومطلعها:
أَرثّ جديدُ الحبل من أم معبد # بعاقبة أم أخلفت كل موعد
ومنها البيت المشهور:
وما أنا إلا من غزية إن غوت
غويت وإن ترشد غزية أرشد
وكان ممن عرفوني به كما ذكرت آنفا أستاذنا الدكتور ناصر بن سعد الرشيد يحفظه الله والصديق الدكتور عبد الله سليمان الجربوع (أبو هيثم) يحفظه الله. الدكتور عبد الله من الشخصيات العلمية الهادئة طبعا، والرزينة علما، كان معروفا بين أقرانه بالإخلاص والكرم، أعماله العلمية فيها الدأب وتوليد الأفكار في القضايا العلمية التي تتناول الأدب القديم، رقيق في الصداقة، شديد في الحق، كان من المقربين في جامعة أم القرى إلى صديقنا وأستاذنا الدكتور عالم التراث المتمكن من كتبه وأماكن وجودها، ومدير مركز المخطوطات في جامعة أم القرى الذي كانت له رحلات مظفرة في البحث عن التراث وتصويره، وكان لقاؤنا به في مجلس أميرنا ودكتورنا، ومحب التراث وأهله، والمؤرخ المنصف البارع صاحب السمو الأمير تركي بن فهد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن فيصل بن تركي آل سعود يحفظه الله فرصة للإنصات والتعلم من التجربة الفذة بحثا عن المخطوطات وتحقيقا لها، وله في ذلك نوادر عجيبة يرويها التلامذة والزملاء إنه أستاذنا الدكتور
عبد الرحمن بن سليمان العثيمين (1365 هج الموافق 1945 م/ ت. 1436 هج الموافق 2014 م). أخرجا معا كتاب (الديباج) لأبي عبيدة معمر بن المثنى التيمى (ت 209هـ). الدكتور عبد الله تأنسه النفس لطيب معشره، ولست أنسى دعوته الكريمة لي في منزله، ولا إنصافه وحسن إدارته عندما تولى رئاسة قسم اللغة العربية في جامعة الملك سعود 1418-1420 هج. له عناية بجمع الشعر وتحقيقه، وتدبيج الأبحاث والدراسات في قضايا ذلك الأدب ومناهج دراسته، ويقتسم الميلاد واسم الأب مع الدكتور عبد الرحمن العثيمين في مدينة عنيزة التي تسرق الألباب برقي أهلها وكرمهم وطيب معشرهم وانفتاحهم الذي يحفه حسن الخلق والكرم حتى أطلق عليها المؤرخ والمفكر أمين الريحاني (1293- 1359هـ/ 1876 - 1940م) الذي دخلها عام 1340هج/ 1921-1922م. لقب «باريس نجد». إن الأستاذ الدكتور عبد الله الجربوع يطرب لمجالس العلم، وتعجبه ألمعية الطرفة فيكررها وينسبها لصاحبها ولم أعرف مدة رئاسته للقسم إلا طيب المعشر وتيسير الأمور بما لا يتعارض مع الأنظمة والقوانين. أما عنيزة فلست أنسى دخولي إليها في ركاب معالي الأستاذ الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي يحفظه الله، ورفقة الشيخ محمد بن سعود الحمد والأستاذ سليمان بن أحمد التركي والشيخ فراس الغنام يحفظهم الله إلى ندوة تأبين ابنها البار أستاذنا الدكتور عبد الرحمن بن صالح الشبيلي (أبو طلال) (1944-2019م) رحمه الله، وما لقيناه من حفاوة وتكريم من أهلها الكرام الطيبين.
أما الصديق الذي اختطفته يد المنون دون أن نقضي من صداقته وطراً فهو الزميل عبد العزيز بن عبد الكريم التويجري «أبو محمد» ( ت. 1433هـ /2012م) رحمه الله الذي استطاع في مدة قصيرة أن يشيد لنفسه في القسم مكانا ومكانة؛ مكانا في سعة اطلاعه ومعرفته بكتب اللغويات العربية مخطوطها ومطبوعها، ولا عجب وهو صاحب دار نشر كان لها إسهام في نشر التراث نصوصه ودراساته «دار الأصالة» في الرياض. عمل في باكورة حياته في إدارة المطبوعات العربية بوزارة الثقافة والإعلام، وعيِّن مديراً لإدارة المطبوعات العربية قبل انتقاله إلى الجامعة بعد حصوله على الدكتوراه ( هج/ م) من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. كان يمر بي أول وصوله إلى القسم في الصباح الباكر فنحتسي القهوة (نتقهوى) وفنجانا من الشاي ونتجاذب أطراف الحديث عن الكتب والإصدارات والمخطوطات؛ وأهداني رحمه الله نسخة من معلمة فؤاد سزكين (1924م-2018م) رحمه الله «تاريخ التراث العربي» الذي ترجمته جامعتا الإمام محمد بن سعود الإسلامية وجامعة الملك سعود ( منشورات جامعة الامام محمد بن سعود الاسلامية 1411هـ / 1991 م.) ونسخة من كتاب «خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب للبغدادي، (عبد القادر بن عمر البغدادي، ت 1093هج) بتحقيق الأستاذ عبد السلام هارون رحمه الله (1909-1988م) مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة: الرابعة، 1418هـ-1997م في أحد عشر مجلدا. ومن طرائفه رحمه الله ما حدثني به عن شيخنا أبي عبد الرحمن ابن عقيل الظاهري يحفظه الله، وكانت دار الأصالة قد نشرت له كتاب «مسائل من تاريخ الجزيرة العربية، 1411هج/1994م، مؤسسة دار الأصالة للثقافة والنشر الإعلام. وظل لشيخنا بقية من حقوقه المادية حملها إليه الدكتور التويجري إلى بيت الشيخ قديما في حي «سلطانة» وصل أبو محمد مع صلاة المغرب فذهب للصلاة في مسجد الحي، وكان الشيخ يصلي فيه، ولما انقضت الصلاة سارع للسلام على الشيخ وأخبره أنه يحمل إليه بقية حقوقه من نشر الكتاب، فما كان من الشيخ إلا أن هش وبش وشكر الله وصلى على نبينا أفضل صلاة وأتم تسليم ثم قال لأبي محمد بصراحته المعهودة: «الحمد لله وحده لا شريك له يرزقكم من حيث لا تحتسبون؛ كنت قد أوصيت على العشاء لجماعة دعوتهم، وأجلت دفع الثمن لأجل، فجاء الرزق بفضل الله وسعيكم المبارك، ولن تغادر حتى تتعشى معنا وأمسك بتلابيبه». رحمك الله يا أبا محمد وأسكنك الجنة في عليين. وأختم حيثي عنه بذكر سنة حاولت تثبيتها في تقاليد قسم اللغة العربية في جامعة الملك سعود عندما اقترحت إصدار كتب تذكارية عن أعلام القسم؛ من توفاهم الله ومن كانوا على وشك مغادرة القسم متقاعدين، وبدأ الحث والمشورة حتى سارت الفكرة ولقيت قبولا في نفوس الزملاء على اختلاف مشاربهم وتفاوت أعمارهم، وعمل الجميع بدأب فيما أوكلته إليهم لجنة متابعة الكتاب، وصدر محكم الأبحاث وفيه شهادات ثرية بعنوان: «بحوث محكمة وشهادات مهداة إلى عبد العزيز بن عبدالكريم التويجري، جامعة الملك سعود، الرياض 1434 هج/2013 م.» وجرى تدشين الكتاب في لقاء حافل برعاية وكيل وزارة الثقافة آنذاك الدكتور ناصر الحجيلان؛ ووجدت مقالة حافلة في صحيفة الجزيرة الثقافية الغراء بقلم فيصل العواضي / تصوير - حسين الدوسري: السبت 14/12/2013 – 11 صفر 1435 هج، العدد 412 ، وأبّنه الدكتور الحجيلان بكلمة ضافية تنضح صدقا ومودة في صحيفة الرياض الخميس 19 شوال 1433 هـ - 6 سبتمبر 2012م - العدد 16145. وبفقده انطوت صفحة من حكايات العلم والمودة رحمه الله. ومن مظاهر الوفاء أنني عندما أقمت مريضا في مشفى الملك خالد الجامعي جاءتني يوم طبيبة تسأل عن صحتي وحاجتي فشكرت لها الله وحمدته فأخبرتني أنها ابنة الدكتور التويجري رحمه الله، جاءت تطمئن بطلب من والدتها حفظهم الله جميعا.
كانت بشائر المستقبل تبدو في ملامح دفعة من المعيدين الذين اختار بعضهم أن يكمل دراساته العليا في الجامعة، وحرص بعضهم على الابتعاث؛ {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا..} [سورة البقرة:144] لقد كان بين هذه الكوكبة نجوم في ذروة توهجها، علميا وإنسانيا، وكان لقائي الأسبوعي معهم فرصة للارتقاء بالمعارف العلمية والحياة، يأتي في مقدمتهم الدكتور علي معيوف المعيوف الذي كانت ملامح النباهة والدقة والجدية تلازمه في كل أحواله ناهيك عما يتحلى به من خصلة الوفاء والتقدير بأساتذته وزملائه، وهي خصلة رافقته في أحواله كلها. كان مشروع لغوي ودارس لأحوال اللغة وتعليمها لأهلها وللناطقين بغيرها فضلا عن حبه التراث وتعلقه بجوهره مخطوطا ومطبوعا. تخرج الدكتور علي في جامعة الملك سعود في مجال الدراسات اللغوية، وله اليوم باع طويل في برامج تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها من خلال تجربته الطويلة والمعمقة في جنوب شرق آسيا عموما وفي أندونيسيا على وجه الخصوص، وهو اليوم رئيس وحدة جنوب شرق آسيا «بمركز البحوث والتواصل المعرفي» ؛ ويعد هذا المركز بأنشطته المدروسة ومنشوراته الرصينة والمتنوعة الفريدة وعلى رأسه سعادة الأستاذ الدكتور يحيى محمود بن جنيد، القامة العلمية والفكرية والإنسانية المنجزة بهدوء التي تستقطب المتميزين المنجزين. والدكتور المعيوف مدرب معتمد في طرق تعليم اللغة العربية على وجه العموم وله طبع هادئ يضع الأمور في مواضعها التي ينبغي أن تكون فيها. ومن جميل ما أراد الله بي بعد مغادرتي القسم إلى مركز الملك سلمان لدراسات تاريخ الجزيرة العربية وحضارتها إبان إشراف الصديق الأستاذ الدكتور الراقي علما وسلوكا عبد الله بن ناصر السبيعي يحفظه الله أن مكتبي كان مقابل مكتبه وكنت أسعد بإطلالته الصباحية وابتسامته الودودة، وحديثه المفيد وفقه الله وسدد على طريق العلم خطاه.
أما قرينه وزميله في الدراسة معي فهو الدكتور عمر عبد العزيز السيف، كان لما درس معي شابا تبدو ملامح الألمعية على محياه الطلق، وكان في مجموعة يصعب تمرير الأفكار والمعلومات إن لم تكن منطقية تحملها المقدمات ويجلوها العرض وتجملها الخواتيم تاركة أفقا للزيادة والتطوير. حصل الدكتور عمر على الماجستير بأشراف صديقي الأقرب خلقا وعلما الأستاذ الدكتور حسن البنا عز الدين واجتمع له العلم والخلق بإشراف الأستاذ الدكتور مرزوق بن تنباك يحفظه الله على رسالته للدكتوراه. للدكتور عمر قبول في الأوساط الثقافية يدين بها لشخصيّته المتزنة، غير النمطية؛ فقد شغل منصب رئيس مجلس إدارة «الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون» بين 2017 و2019، ومستشار محترف في «وزارة الثقافة والإعلام السعودية» بين 2013 و2014، ومدير «مركز حمد الجاسر الثقافي» خلال عام 2013، ومستشار محترف في «مجلس الشورى السعودي» بين 2007 و2012، وأمين «الجمعية السعودية للهجات والتراث الشعبي»، وعضو هيئة تحرير «مجلة الخطاب الثقافي»، إضافةً إلى عمله في «مجلة اليمامة السعودية» وتبدو الشخصية غير النمطية أيضا في عناوين كتبه التي تحمل تحتها نزعة تأويلية بارعة في الفهم العميق. ألّف «كتاب بيض الأداحي: رحلة نحو فهم الشعر وتفسيره وتأويله» عام 2019، و»كتاب بنية الرحلة في القصيدة الجاهلية الأسطورة والرمز»، و»كتاب الرجل في شعر المرأة: دراسة تحليلية للشعر النسوي القديم وتمثلات الحضور الذكوري فيه». ولست أنسى تعليقه المتزن في الندوة التي شاركت فيها مع الدكتور هاجد دميثان الحربي إبان رئاسة الدكتور عمر جمعية الثقافة والفنون التي أتيت على ذكرها في هذه الشذرات، ولا ردوده المتزنة بعد محاضرته في
معرض الكتاب بعنوان (فهم الشعر وتفسيره وتأويله) في معرض الكتاب 2019 م. وقد كانت لنا جلسات سمر ومؤانسة سنأتي على ذكرها عندما نحط رحالنا عند مستضيفنا الذي لن أبوح باسمه اليوم. واختم هذه الشذرة بالإشادة بما اكتسبته في مجالس الأمس وندوات الثقافة من معارف وعادات وتقاليد المجتمع السعودي من أفواه أبنائه، وفهم الإلماحات وإجراء المقارنات ليتضح لي البعد التاريخي البعيد الذي تنحدر منه تلك الثقافة التي تحتاج إلى كثير من الدراسات والتحليل، ولنا لقاء.