د. شاهر النهاري
أن ينسج الكاتب من خياله شيئا، وأن يستنبط من الواقع اليومي والتاريخي المعاش شيئا آخر، وهذا ما يميز كاتب الرأي عن أي من أصناف الكتاب.
كاتب الرأي جبرية تواجد وإلحاح وعين لماحة، وقلب نابض يشعر ويتفاعل ويصاب بنشوة السبق، ومرات تلفه الحيرة والكآبة بالروتينية وانعدام تأثر الرأي.
كاتب الرأي المحترف تاج نتاج بداءته وهوايته، وقد يصاب بالغرور، أو يسلم قياده لجهة تسيره، فيصبح خلالها ذكاء اصطناعي المشاعر، يكتب بقريحة غيره، ويحضر غطاء ووعاء وقارورة تعج بالمحتوى المعتق، يصبه خمرا في كؤوس القراء.
أما كاتب الرأي الهاوي فيظل مشروعا لا يكتمل إلا بالاستمرارية، ولو ابتعد عن متابعة الأخبار، ولم يتفكر في أسباب الأحداث وتداعياتها، ولم يحمل هم طرح النظريات، وأهميتها للقارئ، والتوضيح والتبرير، فإنه يفقد الطاقة والوهج، ويصبح دقة قديمة تعجز عن مواكبة الأحداث، وعن وضع الحروف النابضة على أعين القراء، لتنوير من لا يتابعون الحدث الآني.
محام طوعي يتولى الدفاع في مختلف القضايا القابلة للنقاش، باحث عن الخوافي، يشعر أنه موكل بالدفاع فيها، أوالاتهام، وربما يتفلسف لمجرد التنظير، أوأن يلقي الضوء أو يكيل الاحترام لمن يصنع جميل ونزيه الأفعال، ويعذل من يشكك في نوايا البريق، وبالبنان يشير إلى مواطن الإهمال والفساد.
كاتب الرأي طائر مغرد، يحتاج أغصان ومساحات حرية يتنقل بينها قلما ولسانا، وقد يلطم ذا الجدار، وذا الجدار، وقد يحزن، ويبكي، وقد يضحك إما فرحا، أو بدموع التعاسة الصرفة.
كاتب الرأي قد ينبش كومة ثياب هناك، ويفرز النظيف، ويعيد ترتيب ما يحتاج منها للغسيل، يغمرها في مياه السخونة، ويسكب الصابون ويحك بالحجر لتلميع مناطق الغموض، وربما يسكب الأسيد ليزيل شديد البقع، وقد يضيف زرقة نيلة يؤكد بها الصفاء، ويستمر يشطف ويعصر، وينشر فوق حبال رؤية قابلة للتصديق يحبذها، أوحيرة يسارع بتجفيفها وتضبيط مناطق الانثناءات والتكذيب فيها بقوة جمر الكوي.
عمل كاتب الرأي الأصيل يظل حاضرا، صابحا، لا يتحمل التأخير، وبمنظور بناء يمتلك الحيلة والوسيلة والمنطق، وربما بتضخيم غير المرئي، والتقليل من شأن المتضخم المرعب، وبأدوات روح وهواية ومشرط تشريح الأحداث، وترتيب الصور، والقفز بين السطور على صهوة جواد حقيقي أو خشبي، وهو يحمل خلفه القارئ، يدور به سعادة، أو يحذره من مناطق النتوء والجروف والحفر والرمال المتحركة، ويجعله شريكا معه في المغامرة، والخوف كل الخوف أن يتسبب له بالوقوع على فقرات ظهره أو قمة رأسه.
كاتب الرأي اسم عام، ولكن الكثير من المبدعين في هذه المهنة، يتخصصون، في اختيار أعمالهم، وتصنيف وتأكيد رغباتهم، وقدراتهم، طالما يحافظون على مجالات يحسنون الكتابة فيها، مبتعدين عما لا يجيدون، فيكون لهم وهج وعشم عند القراء عن طريق تعلم فراسة حروف كتابتهم، وتوقع أهدافهم، وقدراتهم في توصيل المعلومة، بطرق مباشرة، أو بعد لف ودوران.
بعض كتاب الرأي يقومون بإيصال المعلومة كما جاءت في الأخبار، فيشعرون القارئ أن مقالهم جزء ملحق للخبر الصحفي، يثبت الموجود، ومما لا يعود له العمق، ولا حجم ولا رؤية مختلفة ولا مفيدة.
وبعضهم لماح يشير للخبر، ثم ينطلق بالقارئ معه في رالي قراءات دقائق الأحداث وتأثيراتها وارتباطاتها ومقارنتها بما حدث سابقا، في مختلف الأمكنة، وبما هو متوقع في المستقبل.
بعضهم متفذلك متلاعب بالكلمات، يستغل ضبابية الصور، وبعض يصعد بالقارئ فوق شجرة تهتز أغصانها، وبعضهم يطلقه في جولة مكوكية قد تثبت كروية الأرض، وقد تكون بسطحيتها سالبة، تلملم ما قاله الفلاسفة، وما تحكيه الحكم والأمثال، وبعضهم يصنع سجاد البروتوكولات من أشواك القنافذ!
بعضهم صريح، يدخل الموضوع من أكبر أبوابه، وبعضهم ينساب متخفيا من تحت الأبواب، وبعضهم يفضل التسلل من النوافذ القريبة، والعالية، وبعضهم يتمثل حكايات الجن غير المرئيين، والسكون من تحت الرماد يهمسون بما لا يُسمع، وبعضهم مواكب للعلوم والاكتشافات والمنطق والعقلانية.
بعضهم يقول الرأي اليوم، بما لم يقل به بالأمس القريب، وإذا ما ظهرت سوءته، سارع بأدوات الخياطة في عمليات ترقيع تدعي بخداعها تغير الموضة، وبعضهم له رؤية مائلة، وبعضهم واضحة، تحاول التزام الطريق الطويل المستقيم متحاشية إشارات مرورية لو قطعت تسببت في مخالفات، وعقوبات، وضياع الحق المنظور.
كاتب الرأي قد يسرق مواضيعه من ثمار حدائق زملائه، فيكتب متأثرا بما كتبوا، وقد يشير إلى ثمارهم، وقد يمسح شفة البنفسج، وينكر تهمة التوت، وقد يرى ما كتبوا، فيقرر أنه يستطيع إبرازه بشكل أفضل، وطريقة تختلف، بسبب ركود أحداث آنية غير مؤثرة وليست كثيرة، وما يستفز شوكة نحلة، غير ما يستفز استشعار فراشة، وهذا يختلف كليا عما يجذب الذباب.
كاتب الرأي قد يكون صيادا للأفكار من بحر يدهش بتنوع الأسماك والطيبات، وقد يختار بحيرة أسماكها صغار، تحترق أكثر أجزائها أثناء الشوي، وقد يصطاد من ساقية راكدة آسنة، لا يوجد بها إلا أجنة الضفادع، أو يشتري من الثلاجات، ويذيب جليد الأفكار على سن صنارته.
كاتب الرأي قد يكون مشتتا منهكا بتصاريف الحياة ومشاغلها، فيضطر لإعادة تشكيل مقال سبق وأخرجه للشاشات بعدة وجوه، وتظل مراهنته على وعي ومجاملات القراء، وعلى سهو من يتولون النشر، ومن يطبعون، وهم لا يقرؤون، إلا سلامة الإملاء.
كاتب الرأي حكايات تقع بين الصدق والكذب، والمميز بينهم هو من يطلق العنان لقلمه، ويكتب بضمير عقله وشغاف حرص قلبه ووطنيته وإنسانيته.