حسن اليمني
لقد صار بقاء الكيان الإسرائيلي المحتل في قلب الوطن العربي يشكل عبئاً وخسائر على الغرب الصهيوني الذي هو اليوم في أشد الحاجة للعرب، قد يستغرب البعض مثل هذا القول ولكن من يفهم عمق الصراع المدني العالمي والسيادة العالمية للأمم وخاصة الفقيرة في الحضارة التاريخية الغنية بالمدنية المادية سيدرك أن العالم اليوم يخوض صراعاً بين الحضارة والمدنية، الحضارة وتعني النتاج الفكري والثقافي والروحي المتأصل والمادي بخصائص متميزة في العلوم والآداب والفلسفة بينما تقتصر المدنية على العطاء المادي في قوة تصنيع واقتصاد وابتكار وبناء ويتبعه أخلاقاً ونظماً مادية سطحية دون عمق روحي أو أدب ثقافي متأصل، وبتجاوز الحضارة العربية والفارسية فإن الصين تملك أيضاً حضارة عريقة ومتأصلة بصرف النظر عن صحة أيديولوجيتها لكنها بنت معجزات واخترعت وأسست في حين أن الغرب الأنجلوسكسون لم يظهر في عمقه التاريخي تحضر فكري أو ثقافي أو حتى روحي متأصل وإنما انتقل من التخلف والهمجية إلى النهضة الصناعية ابتداءً من القرن الخامس عشر الميلادي ثم نهضة فلسفية وثقافية مادية وإن أبدعت في الاستقاء والارتواء من ثقافات الأمم الأخرى وخاصة الإسلامية لخلق ثورة فكرية وعلمية إبداعية لكنها في غلاف مادي خالٍ من الروحانية والقيم المتوارثة لانعدامها أصلاً، هذه القوة المدنية التي ظهرت في غياب وهج الحضارات القديمة أو المهزومة استطاعت بقوتها العسكرية وخاصة البحرية من التمدد خارج جغرافيتها إلى مساحات بعيدة في العالم وسيطرت وهيمنت عليها إلى أن صارت هي النظام العالمي والقانون الدولي والحاكم السيد بالمنتج الصناعي والقوة العسكرية، وكل هذا لا يعد قوة حضارية بل قوة مدنية في طقوس التخلف والضعف للآخرين تعتبر جاذبة مغرية، فكان هذا مساعداً ورادفاً لهيمنتها وسيطرتها على العالم كله، أما اليوم فإن أمماً كانت متخلفة ضعيفة تشب عن الطوق وحتى تفوّق بعضها على المدنية الغربية مثل الصين والهند، ليس الأمر محصوراً في الكثافة السكانية وإنما بالإنتاج المدني مع حفظ القيم والأخلاق في الإرث الحضاري التاريخي، هذه القوة المدنية المحمية بإرث حضاري تصعد في مواجهة مدنية استهلكت عطاءها المادي أو تكاد وفوق هذا تنتقل- وأنا هنا أتحدث في الجانب السياسي لا الاجتماعي- إلى تحدي الطبيعة الكونية في إنقاص البشر من خلال نشر الحروب والفقر والجوع والمرض والعمل على هدم الفطرة الإنسانية في مايسمى المثلية وتغيير الأجناس وما إلى ذلك مما لا يستغرب ففاقد الشيء لا يعطيه ومدنية مادية بلا حضارة أخلاقية من الطبيعي والمنطقي أن تصل إلى هذا المنحدر.
وبما أننا نشهد اليوم عودة للحضارة الصينية بقوة اقتصادية وعسكرية مقابل مدنية غربية منهوبة من قبل فكرة مادية غير طبيعية ولا منطقية ومخالفة للفطرة الإنسانية باختلاف معتقداتها إذن نحن أمام ثورة أخلاقية في البعد الاجتماعي الغربي لتعطيل ثم تصحيح مسار سياساته، وهذا يزيد من ضعفه واحتمالية هزيمته أما القوة الصاعدة أي التحضر الأخلاقي الذي صار يظهر اليوم في مظاهرات ومسيرات في مدن كثيرة في العالم، عنوانها حرب الإبادة على غزة لكن مضمونها الحقيقي ثورة أخلاقية ضد الانحلال والتفسخ من القيم، وكي يكون المعنى أبسط وأوضح لنتساءل عن حقيقة ما يسمى «إسرائيل» أليست إحدى وجوه الشبكة العميقة التي تدير أحداث العالم أو بالأصح إحدى أدواته؟ أليس ما تفعله «إسرائيل» منافياً للمنطق الطبيعي للقيم والأخلاق - بصرف النظر عن الأديان والثقافات - هو بالوجه الحضاري للأمم فعل همجي بربري لا أخلاقي ولا إنساني، ومع هذا يجد الدعم والمؤازرة والإسناد من نظم غربية تزعم الديمقراطية التي تحكمها مواثيق اجتماعية فأين هذه المواثيق طالما أن هذه الشعوب التي تنتخب حكوماتها تشاهد بالعين نتاج سياسات حكامها المتضادة تماماً مع أبجديات أخلاق هذه الشعوب أو الإطار الظاهر على السطح الأخلاقي الجمعي على الأقل، السؤال الأهم هل هذه اليقظة المفاجئة بنت فكرتها أم هي محكومة ومدارة من قوة قادمة لقيادة العالم، من المعروف أن التحالف الأرثوذكسي اليهودي مع البروتستانت المسيحي المشكل للصهيونية العالمية هي التي تحكم العالم اليوم والذي ينافسها صاعداً وبقوة هي الصين أو بالأصح الحضارة الأخلاقية التي تجمع الصين مع أمم أخرى تستيقظ وتستعيد هويتها أو ربما يكون حلف خفي بين الصين وروسيا للقضاء على المدنية الغربية بصفة الخيرية في مواجهة الشر, الشيء المؤكد أن العالم لم يعد في صراع حضارات بل صراع أخلاق وقيم ستعيد الأمم إلى هوياتها الحضارية، وبالمناسبة ففي الكتاب الأبيض للحزب الشيوعي الصيني والذي يفهرس إستراتيجية السياسات المستقبلية يشار إلى احترام أديان ومعتقدات الأمم في حدودها السيادية التاريخية، وجاء كذلك أن لليهود حق العيش في فلسطين التاريخية وما يسمى «إسرائيل» ليس إلا قاعدة عسكرية والحال أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أكد ذلك من جهته وكذا البروفيسور الروسي الكسندر دوغين ملهم بوتين في كتابه أسس الجيوبولوتيكا، ذكرت ذلك كإشارات تساعد في توضيح مضمون السطور.