أ.د.عثمان بن صالح العامر
دائماً ما نوصم ونعير من قِبل المثقفين والكتّاب بأننا (أمة لا تقرأ)، ويجتهد هؤلاء النخبويون في تدوين وصفة محكمة يحاولون فيها التوصل للعلاج الذي يشفى أمة «اقرأ» من هذا الداء القاتل كما يقولون، والغريب أنّ هذا النعت المشين أضحى مسلماً به ومتداولاً بشكل كبير، حتى صار القارئ الحقيقي يشعر بالغربة في مجتمعه، ويحس بعدم التوافق مع أقرانه الذين يعيشون معه ويمرون من حوله في تقاطعات شوارع الحياة المتعددة والمتنوعة.
ومع احترامي الشديد لهؤلاء الخاصة إلاّ أنني أختلف معهم في هذا الحكم القطعي المجازف به، فالشعب السعودي شعب يقرأ، ولكنها قراءة تختلف شكلاً ومضموماً عما يعنيه المثقف حين حديثه عن هذا الموضوع، فهو:
* يقرأ الوجوه جيداً، ويتفرّس فيها، وربما أصدر أحكامه النهائية على شخص ما من أول لقاء رآه فيه، حتى قبل أن يتحدث معه أو يشهد أفعاله.. يسألك عن ملامحك الحزينة التي كشفها من خلال قراءته لمحياك وبسرعة خاطفة وغريبة..
يتهمك في ابتسامتك العريضة التي تخفي كيداً دفيناً.. يترحم على ماضيك الذي ولّد وجهاً أسودَ شاحباً رانت عليه الذنوب والمعاصي، وما يدري ولعله يدري أنّ المرض أو الظرف أو الدنيا كانت سبباً لهذا أو ذاك.
* يقرأ أفكارك قبل أن تكمل القول، وغالباً ما يقاطعك جزماً منه أنّ فكرتك وصلت، فهو (يفهمها وهي طائرة)، والأفكار عنده مرمية على قارعة الطريق، ولن يجد عندك شيئاً تضيفه لمخزونه المعرفي.
* يقرأ مكنون الصدور، وينزل القول الفصل في النوايا التي لا يعلم عنها وبها إلاّ رب القلوب.
* يقرأ الأحداث التي تجري في ساحتنا العربية، والتجاذبات العالمية السياسية منها والعسكرية والاقتصادية والفكرية، مع أنه لا يعرف من هذه المعارف إلا اسمها ولا يدري عن مصطلحاتها فضلاً عن دروب العلم فيها.
* يقرأ أسرار البيوت ويعرف ما خلف الأسوار وما يدور داخل أروقة غرفنا المظلمة، مع أنه ربما كان عزباً لم يلج عش الزوجية بعد.
* يقرأ مستقبل هذا الطفل الصغير ويستشرف حالته الشريرة جراء كثرة حركاته التي لفتت انتباهه في لحظة عابرة وبزيارة خاطفة، مع أنه لم يقرأ في علم نفس النمو سطراً واحداً.
* يقرأ أوراق الناس كل الناس، شرقيهم وغربيهم، شريفهم ووضيعهم، صغيرهم وكبيرهم، قبليهم وشعبيهم، عالمهم وجاهلهم، ويصدر حكماً عاماً على شعب بأكمله، وبلد بأسره، وعلماء الأمة أجمع ، والملوك والرؤساء و... بما تهتز منه الجبال عظمة وإجلالاً وخوفاً.
* يقرأ تدينك، علاقتك بخالقك، قربك وبعدك من ربك، نفاقك وصدق إيمانك بمجرد ملامحك الظاهرة البسيطة ودون السؤال عن حقيقة سلوكك وأخلاقك، صلاتك ودعائك، صدقتك وصيامك.
* يقرأ القدر ويطلق حكمه المطلق «بالقهر» فكيف بهذا الإنسان «وهو من هو» يصل لأعلى المناصب.. يملك الأموال.. يتزوج.. يسافر.. يسكن، «وأنا من أنا» أفوقه في نسبي.. سامتي.. ملكاتي.. قدراتي ومع ذلك «حظي» ما زال متعثراً.
* يقرأ خارطة المكان ومواقيت الزمان وحدود البلدان، بل يقرأ عالم الأرض ويبدع في قراءة أفلاك السماء، مع أنه ربما لم يغادر مدينته الصغيرة التي يعتقد أنها هي بمعالمها البسيطة، وشوارعها الضيقة، وبيوتها المعدودة، مركز الكون، وعنوان البقاء، وغاية البناء، ومنتهى الحضارة.
بعد هذا كله.. أتشك أخي القارئ بأننا شعب لا يقرأ؟، مع اعتذاري الشديد للكتاب الذي « يشكو هوانه على الناس في وطني العزيز، وعند جموع أمتي إلا ما ندر»، دمتم بخير، وإلى لقاء والسلام.