م.عبدالمحسن بن عبدالله الماضي
1 - هل يمكن أن ينجح التغيير سياسياً قبل أن ينجح فكرياً؟ وهل يمكن أن يطبق السياسي التغيير في المجتمع، ثم يبدأ المجتمع في استيعاب فكر التنوير حينما يرى نتائجه فيقبل به؟ بمعنى، أيهما يسبق الآخر: القبول بفكرة التغيير قبل حركة التغيير، أم أن حركة التغيير هي التي تفرض قبول الفكرة؟
2 - أيضاً ما هي العلاقة بين التغيير الفكري والتغيير السياسي؟ هذا السؤال طرحه الفرنسيون إبان الثورة الفرنسية عام (1789م)، وهل فكر التنوير هو الذي صنع الثورة الفرنسية أم أن الثورة الفرنسية هي التي صنعت عصر التنوير؟
3 - هناك من المفكرين الفرنسيين من رأى أنه لولا الثورة الفكرية التي أحدثها فلاسفة التنوير في العقول لما كانت الثورة الفرنسية، وأن التنوير هو الذي مهد لقيامها، حيث فكك فكر التنوير هيمنة الكنيسة الكاثوليكية وكل الأفكار الطائفية المتعصبة التي كانت تتبناها وتُرَسِّخها بين أفراد المجتمعات المسيحية في أوروبا.. من هنا فإن الثورة الفرنسية ما كانت لتنجح لولا نجاح الثورة الفكرية التنويرية، أي أن الفكر هو السبب والثورة هي النتيجة.. وكان هذا هو الرأي السائد إبان قيام الثورة والعقود التي تلته.
4 - بعد الحرب العالمية الثانية، أي بعد مائة وخمسين سنة من الثورة الفرنسية، ظهرت آراء أخرى ترى العكس تماماً، وترى أن الثورة الفرنسية كانت حدثاً مزلزلاً لأوروبا كلها وليس فرنسا وحدها.. وأنها بتأثيرها وآثارها كانت أشبه بالانقطاع الذي يحصل فجأة في مسار التاريخ.. فكيف تكون امتداداً لفكر مهما كان ذلك الفكر، ولا يمكن اختزالها لأسباب أو أصول سابقة لها؟ كما أن التاريخ يؤكد أن الثورة الفرنسية هي التي شكلت فكر التنوير وصاغت عصر النهضة من بعده.
5 - ثم ظهر رأي ثالث وهو أنه بقدر ما شكَّلت الثورة الفرنسية عصر التنوير فإن فكر التنوير هو الذي صاغ فكر الثورة، وأن هناك علاقة بينهما، حيث رفعت الثورة من شأن فلاسفة التنوير ورفعت من شأن أفكارهم وكتبهم مقاماً يكاد يصل إلى التقديس.. إلى درجة أن كتاب (العقد الاجتماعي) لـ»جان جاك روسو» عُد إنجيلاً للثورة، ومنه استمدت أفكار حقوق الإنسان حتى تبوأت أدبيات الثورة الفرنسية مقاماً رفيعاً في الفكر الإنساني.. أي أن فلاسفة عصر التنوير لعبوا دوراً كبيراً في التمهيد للثورة الفرنسية، وأن الثورة الفرنسية هي التي رفعت من شأن فلسفة وفكر التنوير وثبتته وأبرزت مفكريه، وكان يمكن أن تنطفئ تلك الأفكار التنويرية وتُدْفن كما دُفنت أفكار عظيمة عبر التاريخ.
6 - بعد تلك المقدمة نأتي إلى موضوعنا اليوم وأتساءل عن الانغلاق المجتمعي الذي عاشته الجزيرة العربية والذي سمح لفكر التشدد بالانتشار والازدهار بين أفراده، كيف تم تفكيكه بهذه السرعة العجيبة بلا ثورة تقتل عشرات الآلاف من أبنائه، ولا سجون تُؤوي مئات الآلاف منهم، ولا مقاصل يتزاحم المحكوم عليهم بالإعدام في انتظار دورهم لفصل الرؤوس عن الأجساد، حتى اشْتُهر سجن (الباستيل) واشتهرت المقاصل وقصص من أُزْهقت أرواحهم على عتباتها.. كيف تم التحول بيسر وسهولة دون إراقة دماء أو مظاهرات أو عنف من أي شكل؟! وهل سبق عملية التحول هذه فكر تنويري مَهَّد للتحول؟ ذات السؤال الذي أثاره الفرنسيون إبان الثورة الفرنسية ولا يزال السؤال مطروحاً لديهم بعد أكثر من مائتي عام على قيامها.
7 - لا شك أن تحريك المجتمعات مهمة عظيمة لا يكفي أن تكون فكرة يفهمها البعض وليس الكل، ويُقَدِّر نفعها القليل من البعض، ويقاومها باقي الكل.. والمقاومون قد يكونوا مُسَيَّرين بفعل المعتاد والسائد، أو التوجيه الخاطئ أو المغرض، أو أنه يؤثر على مصالحهم.. فالأكثرية تقاوم التغيير ولا يمكن للفكرة وحدها أن تُحْدث التغيير.. من هنا يمكن القول إن دور السياسي ممثلاً في القائد هو المحرك الحقيقي والدافع الذي يحرك كل مفاصل المجتمع المفكر منها وغير المفكر.
(للحديث بقية).