ناهد الأغا
عندما أتأمل قول أمير الشعراء أحمد شوقي:
«لايزال الشعر عاطلاً حتى تزينه الحكمة؛ ولاتزال الحكمة شاردة حتى يؤويها بيت من الشعر».
فإني وقتذاك أدرك تماماً قيمة الشعر عندما يلبسه الشاعر ثوب الحكمة فيبلغ كنه الجمال والدهشة الحقيقيين. فالشعر حبيسٌ مغلولٌ بقيود مثقلة والحكمة تحرره منها وتلبسه تيجانها وبالمقابل تبقى الحكمة تائهة لامستقر لها حتى يحتضنها بيت من الشعر فيغدق عليها سكينة المأوى وهدأته.
وإذا كان الفيلسوف قد عقد صلحاً مع الحكمة وبات يطلق عليه في الغالب حكيماً؛ فإن الشاعر غالباً هو عرابها بل سيدها ومليكها؛ وخير دليل على آثار الحكمة وانعكاسها إيجاباً وفضلاً على الإنسان هو قول الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز الآية «269» من سورة البقرة:
يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً .
وعندما يقال عن شخص ما إنه تصرف بحكمة هذا يعني قدرته المتميزة عن غيره في فهم الأمور فهماً عميقاً وإدراكاً معرفياً غاية في النضج مكنته من تخطي الحيرة في صعوبة الوصول لأي قرار بل تفوقه في اتخاذها في اللحظة المواتية والملائمة بدقة متناهية لسجل النضج الذي ورده من مدرسة الحياة المترعة بالتجارب .
وبالنظر لمميزات شعر الحكمة التي لامناص من ذكرها بادىء ذي بدء قبل الولوج في الحديث عن أهم شعرائها؛ فمميزاتها جمة نذكر أهمها :
التركيز على المبادئ الأخلاقية التي تهدف إلى إبراز سمو الفضائل سيما الشجاعة والسعي والجد لبلوغ الغاية المرجوة؛ كما رمت بمفهومها حالة الرضا التام بالقضاء والقدر خيره وشره والتسلح بالصبر الجميل أمام شظف العيش؛ وماانفكت في طرحها الثالث من التطرق لكل ماهو إنساني بحت كالحلم والرصانة في القول والفعل والفطنة المتوقدة في فهم المعنى كاللبيب الذي تغنيه الإشارة وسداد الرأي بكل أمر يصيب المرء.
ولعل العصر الجاهلي كان مترفاً بأشعار لاحصر لها جعل شعراؤها من الحكمة عنواناً لقوافيهم التي يبوحون بها بفطرة لاتحتاج إلى تكلف؛ وإذا ذكر شعراء الحكمة في العصر الجاهلي فأول مايذكر سيدهم الشاعر زهير بن أبي سلمى والذي تعج أشعاره بالكثير من الحكم كقوله :
ومن يغترب يحسب عدوا صديقه
ومن لايكرم نفسه لايكرم
ومهما يكن عند امرئ من خليقة
وإن خالها تخفى على الناس تعلم
كما ويذكر الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد الذي اختص كثيراً من شعره بموضوع الحكمة فكان فطناً جريئاً ذا خبرة في الحياة رغم حداثة سنه حيث قال :
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي
عقيلة مال الفاحش المتشدد
أرى العيش كنزا ناقصا كل ليلة
وماتنقص الأيام والدهر ينفد
ونخلص من خلال ذكر هذين الشاعرين الجاهليين ونظمهم لشعر الحكمة إلى عدة خصائص تميز بها هذا النوع من الشعر؛ فقد كان ذا معانٍ سلسة وقد يكررها الشاعر ليؤكد المعنى الذي ترمي إليه الأبيات والتي تتصف في الغالب بإبداع منقطع النظير فتارة يظهر الجمال جلياً في معانيها وتارة أخرى تميزها بتجانس ساحر وانسجام بربط تراكيبها يصل إلى حد الدهشة؛ وجميع هذه الخصائص تنطبق تماماً على ماقاله الشعراء الذين عاشوا في بقية العصور.
ولعل العصر العباسي كان عصراً ذهبياً ليس في الأدب والنقد فحسب بل كان يستحق هذا اللقب في جميع مجالات الحياة.
وسنفرد هنا الحديث عن شعرائه الذين تفوقوا بقصائدهم المذهلة والتي تحدثوا من خلالها عن الحكمة كفضيلة سامية تعلو على الكثير من الفضائل.
ولعل أول ما نبدأ الحديث بأبي الطيب المتنبي كشاعر متمكن ومبدع باعتراف الكثير من شعراء عصره الذين تفوق عليهم حيث قال وردد كثيراً أشعار الحكمة نورد منها :
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته
وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا
مضر كوضع السيف في موضع الندى
كذلك لابد من ذكر الشاعر الفيلسوف الذي تفوق بحكمته على أقرانه ويعتبر من حيث التقييم للنقاد أحكم الشعراء بعد المتنبي لكنه تفوق عليه في بعض المواضيع كالفلسفة على سبيل المثال لا الحصر؛ وخير دليل على ذلك كتابه الرائع «رسالة الغفران».
ومن أشعار الحكمة التي كتبها :
لاتفرحن بفأل إن سمعت به
ولاتطير إذا ماناعب نعبا
فالخطب أفظع من سراء تأملها
والأمر أيسر من أن تضمر الرعبا
وقال أيضاً:
غير مجد في ملتي واعتقادي
نوح باك ولا ترنم شاد
خفف الوطء ماأظن أديم
الأرض إلا من هذه الأجساد
ولكون أبي تمام قد سبق في عصره فترتي المتنبي والمعري فيمكن القول إنه ذلل السبيل بشعر الحكمة لكليهما ومما قاله أبو تمام في الحكمة :
ومامن شدة إلا سيأتي
لها بعد شدتها رخاء
لقد جربت هذا الدهر حتى
أفادتني التجارب والعناء
ولعل من المجحف وعدم الإنصاف إذا ماتحدثنا عن الحكمة لانعرج على ذكر أشعار الإمام الشافعي الذي كان معلماً في الحكمة لكل شاعر نظم شعر الحكمة؛ وقد نثر حروفها كالدرر في شتى ال مجالات حيث قال في القضاء:
دع الايام تفعل ماتشاء
وطب نفسا إذا حكم القضاء
ولاتجزع لحادثة الليالي
فما لحوادث الدنيا بقاء
وقال رحمه الله في المال وطباع البشر:
رأيت الناس قد مالوا؛ إلى من عنده مال
ومن لاعنده مال؛ فعنه الناس قد مالوا
وفي حديثه عن السفر والهجرة والترحال قال أيضاً:
سافر تجد عوضا عمن تفارقه
وانصب فإن لذيذ العيش في النصب
إني رأيت ركود الماء يفسده
ان ساح طاب وإن لم يجر لم يطب
والشمس لو وقفت في الفلك دائمة
لملها الناس من عجم ومن عرب .
ويالروعة ماقاله عن انتظار الفرج والذي صنف من أروع العبادات حيث تجلت الحكمة في قوله :
ولرب نازلة يضيق لها الفتى
ذرعا وعند الله منها المخرج
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها
فرجت وكنت أظنها لا تفرج
وفي غضون هذا الهطول المعطاء من حكم أولئك العباقرة تقطر على دوالي خاطري حكمة رائعة جداً لسقراط الفيلسوف الإغريقي فتنعش بندى عطرها الروح وتحيي جدب صحاريها حيث قال :
«حتى تعثر على ذاتك ؛ إبدأ بالتفكير في نفسك».
فأي شيء أجمل من أن يتصالح المرء مع ذاته؛ يولي نفسه اللطف؛ يسبر أغواره؛ يعطر خصاله ليسمو بها رفعة؛ ويحرق كل ماهو فج في دواخله فينشر كالعود مسكاً وطيباً ضمنه وماحوله.