سلمان بن محمد العُمري
بعد أكثر من مائة عام وفي مهد بلاد الإلحاد الشيوعية التي لا تعترف بالأديان وأنه لا إله والحياة مادة ها هي روسيا وعلى لسان رئيسها وبما نص عليه الدستور الروسي الجديد في أن تعطي العائلة أولوية كبيرة، وقد قام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشرح مسألة النمو السكاني بشكل مبسط، وختم تعليقه بقوله: (حتى يتحقق ذلك؛ يجب أن تتكون العائلة بشكل مبكر) وهي دعوة للالتزام الأخلاقي، والبُعد عن الفوضى الأخلاقية الغربية التي أصبحت تنافي القيم والمبادئ الأساسية في الحياة الاجتماعية، وغدت ضرباً من الماضي في ظل قوانين توجب عدم التقيد والالتزام به، وتجاوزه إلى سلوكيات خاطئة تخالف القيم الأخلاقية والفطر السوية وتشريع الشذوذ والانفلات الأخلاقي.
وهذه الدعوة وما نص عليها الدستور الروسي استشعار للخطر الذي يهدد المجتمعات الغربية، فالشر يتنامى في الغرب من خلال فساد القيم، وانحطاط السلوك، وانتكاس المفاهيم، واضطراب المعايير، وكم تعالت صيحات العقلاء في الغرب بانتشال مجتمعاتها من وحل الفساد الأخلاقي والآثار الأمنية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية مستقبلاً على مجتمعاتهم ما لم يبادروا بوقف هذا الفساد والانحدار الذي صار يشرع له وتسن له القوانين والأنظمة لحمايته، ومحاولات إقحامها ضمن مناهج التعليم.
وليس بخاف على الناس واقع الأسرة في الغرب والتفكك فيها مما ينذر مستقبلاً بتفكك المجتمع برمته، فقد ذكرَت مجلة (أوبزر فاتور) الفرنسية أن نسَبَ العزوف عن الزواج بلغَت 85 %، ونسْبَة الطلاق فيها أكثر من 50 %!، وثلث أطفال أمريكا يولدون خارج إطار الزواج، و(75 %) من الأمريكيات يشعرن بالقلق لانهيار القيم والتفسخ العائلي، وعدد العائلات التي ترأسها أمهاتٌ غيرُ متزوجات ولديهن أطفال وصل في الإحصاء السكاني الأمريكي لعام 2000 إلى سبعة ملايين ونصف مليون أسرة، في حين وصل عددُ الآباء غير المتزوجين الذين يربُّون أطفالهم وحدهم إلى مليونين، و(50 %) من المواليد في بريطانيا غير شرعيين، وفي روسيا ربع الأطفال غير شرعيين.
وهذه نماذج يسيرة من واقع التفكك الأسري والانفلات الأخلاقي وقبل تشريع القوانين التي تنادي بالمساواة والحرية وتحت مفهوم (الجندر) وهو وسيلة لإلغاء الفروق البيولوجية، ورفض الاختلاف بين الذكر والأنثى رغم أن هذا هو الأصل لقوله تعالى: {وأنَّه خَلَقَ الزوجين الذَّكرَ والأنثى من نُطفة إذا تمنى) النجم: 45 - 46، وهذا المفهوم ليس لتحسين وتنمية دور الأسرة في المجتمع، ولكن لفرض فكرة حق الإنسان في تغيير هويته والأدوار المترتبة عليها والاعتراف بالشذوذ الجنسي وفتح الباب على إدراج حقوق الشواذ من زواج المثليين، وتكوين أسر (غير نمطية) كما يقولون أي الحصول على أبناء بالتبني، مما يؤدي إلى إضعاف الأسر الشرعية التي هي لبنة بناء المجتمع السليم المترابط، كما يستخدم هذا المفهوم لإذكاء روح العداء بين الجنسين وكأنهما متناقضان ومتنافران.
والمؤلم أن هناك من أبناء المسلمين من تراه إمعة ويسير في ركب هذا النتن والعفن الأخلاقي، ويقوم بتمجيد لبعض الأفكار التي تنافي الشريعة الإسلامية والفطر السوية بلا إدراك ولا تمييز، باسم حقوق الإنسان. واستغلال شعارات «المساواة بين المرأة والرجل، ولا يعلم أن مبتغى هؤلاء بتعميم الشذوذ والانفلات الأخلاقي، مع إفراغ الأسرة من وظائفها الأساسية عبر الطعن في مبدأ «قوامة الرجل، وفرض التعامل القانوني بين أفراد الأسرة بعيداً من روحية المودة والرحمة والسكن فيما بينهم. والإطاحة بالدور الرعائي للأب، وانتزاع الصلاحيات التأديبية منه والتحكم التدريجي في عدد أفراد الأسرة وفق برامج واتفاقيات تنظيم الأسرة وتحديد النسل.
لقد قرَّر الإسلام أنَّ أصل المرأة والرجل في الخلق واحد؛ ولهذا فالنساء يُماثِلن الرجال في القَدْر والمكانة، ولا ينقصنَ عنهم لمجرد كونهنَّ نساء، فقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً..} النساء: 1.
وقد جعل الله الزواج آية من آياته، وأحد تجليات النظام البديع، والبناء الرفيع، والخلق الموزون، فقال عزَّ وجلَّ: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} الروم: 21، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ النِّسَاءَ شَقَائِقُ الرِّجَالِ»، أي: نظراؤهم وأمثالهم، وهم جميعاً في الإنسانيَّة سَوَاء.
وقد عاب الإسلام كل سلوك يميز بين المرأة والرجل من الناحية الإنسانية: ومن أمثلة ذلك: أن القرآن الكريم حدثنا عن الجاهليِّين والمشركين أنهم في مناسبات الولادة يميزون بين الذكر والأنثى بطقوسهم وردود أفعالهم، فقال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}النحل: 58-59. حكمٌ جاهلي، وسلوك جاهلي، ومحاكمة جاهلية، نفاها جملةً قولُ الله تعالى: {أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}.
وبعد ما تقرر من حقوق تشريعية في ديننا، وعناية للمرأة المسلمة وللرجل المسلم وللأسرة ولمستقبل أبنائهم من حياة كريمة، هل نبحث عن ما لدى الغرب من تفاهات ودعاوى وديننا كفل حقوق الجميع، لقد أدركت بعض الدول الغربية ومنها روسيا خطورة الفساد والانحلال الأخلاقي والشذوذ على مجتمعها وبادرت بسن القوانين لتكون سياجاً تحمي به مجتمعاتها من المستقبل المظلم.