حسن اليمني
حتى الآن لا زال يغيب عن كثير من وسائل الإعلام العربي كشف حقيقة خفايا ما يجري في العالم والاستمرار في اجترار مظاهر الأحداث دون بحث عمقها ومضامينها، في حين أن مراكز البحوث والدراسات الاستراتيجية الثرية بما فيها الأمريكية والأوروبية والإسرائيلية تقرأ عمق الأحداث وتكشفه.
يكاد يكون شبه إجماع فكري فلسفي منطقي سياسي منتشراً حول العالم في حتمية سقوط المدنية الغربية وقيام نظام عالمي جديد، المدنية الغربية تتهاوى ومظاهر ومؤشرات ذلك أصبحت في وضوح لا يقبل اللبس، ولم تكن أحداث السابع من أكتوبر إلا إعلاناً صريحاً بانطلاق مسار السقوط للمدنية الغربية، يتحدث المؤرخ اليهودي الإسرائيلي إيلان بابيه في ندوة عقدت في مدينة حيفا قبل أيام فيقول: إن المشروع الصهيوني يحتضر وعلى حركة التحرر الفلسطينية الاستعداد لملء الفراغ ويذكر على الأقل ستة مؤشرات تظهر احتمالية نهايته كما يلي:
1 - الصراع الداخلي في إسرائيل بين العلمانيين والمتطرفين (وهو مشهود وملاحظ منذ أن اعتلى اليمين وساد المنظومة الحاكمة والمسيطرة على إدارة الكيان منذ أكثر من عقدين).
2 - الدعم العالمي غير المسبوق للقضية الفلسطينية بسبب الحرب على غزة (وقد تجلى ذلك بشكل واضح ومؤثر بفعل الغزو الصهيوني لغزة بما استحق وصف حرب إبادة).
3 - إدراج إسرائيل كدولة فصل عنصري من المنظمات الدولية المحترمة (وقد رفضت محكمة العدل الدولية طلب الكيان برد الدعوى المقدمة من جنوب إفريقيا مع اتخاذ إجراءات تراقب السلوك السياسي والعسكري للكيان المحتل بشأن غزة كحكم أولي يتبعه استمرار الدعوى).
4 - تردي الوضع الاقتصادي في إسرائيل وانتشار الفقر وضعف القدرة الشرائية (وهي نتيجة طبيعية لحرب حشد لها جند الاحتياط مضافاً لكلفة الحرب ومداها الزمني غير المسبوق).
5 - عجز الجيش عن حماية الشمال والجنوب وتحول اليهود إلى لاجئين داخل الدولة (وهي المرة الأولى في هيئة الكيان منذ صناعته وإنشائه).
6 - رفض الأجيال الجديدة من يهود العالم ما تقوم به إسرائيل (الحقيقة ليس الأجيال الجديدة من اليهود بل علو صوت اليهود على صوت الصهيونية العالمية).
هذا المؤرخ ليس عربياً ولا مسلماً بل إسرائيلي صهيوني لكنه يقرأ وينظر بالمنطق الفكري للواقع وليس بمنطقية واقعية كالذي تنتهجه بعض الرؤى الإعلامية العربية لسطح الأحداث دون عمق. أما عالم الديموغرافيا والأنثروبولوجيا الفرنسي «إيمانويل تود» وفي كتابه الجديد بعنوان (هزيمة الغرب) الذي يرسم فيه تحليلاً جيداً للمشهد الجيوسياسي العالمي فيقول: إن اختفاء البروتستانتية الأمريكية هو العامل الرئيسي في سقوط الغرب. فقد أدى سقوط الديانة البروتستانتية في أمريكا إلى ظهور هذه الأيديولوجية الأمريكية الجديدة التي تسيطر على الفضاء الغربي بأكمله (العدمية) وكانت هذه العدمية بمثابة الشرارة التي أدت إلى السقوط النهائي للغرب، والقوة الدافعة وراء تجدد الإمبريالية العنيفة في الغرب. وهو كعالم فرنسي أولوية اهتمامه لا شك فرنسا قبل غيرها فإنه وفي معرض شرح هذا الاهتمام المعني به نهاية الغرب أو هزيمته يظهر ذلك في قوله (كتابي هو في الأساس تكملة لكتاب ماكس فيبر «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية» - وهو مفكر ألماني توفي عام 1920م - يقول: عشية حرب عام 1914، كان يعتقد بحق أن صعود الغرب كان في جوهره صعود العالم البروتستانتي- إنجلترا، الولايات المتحدة وألمانيا توحدهما بروسيا والدول الإسكندنافية. وكان حظ فرنسا ملتصقاً جغرافياً بالمجموعة الرائدة. وقد أنتجت البروتستانتية مستوى عالياً من التعليم، لم يسبق له مثيلٌ في تاريخ البشرية، ومعرفة القراءة والكتابة على مستوى العالم، لأنها تطلبت أن يكون كل مؤمن قادراً على القراءة. الكتاب المقدس لنفسه. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الخوف من اللعنة والحاجة إلى الشعور بأن الله اختاره حثاً على أخلاقيات العمل، والأخلاق الفردية والجماعية القوية. وعلى الجانب السلبي، كانت هناك بعض من أسوأ أشكال العنصرية التي وجدت على الإطلاق- مناهضة السود في الولايات المتحدة أو مناهضة اليهود في ألمانيا- منذ ذلك الحين، تخلت البروتستانتية، من خلال انقسامها المفاهيمي بين «المختار من قبل الله» و»ملعون من الله»، عن المبدأ الكاثوليكي المتمثل في المساواة بين جميع الناس اليوم - وليسمح لي القارئ بملاحظة وهي أن مبدأ المساواة في الأصل ليست في الكاثوليك كما ذكر «تود» وإنما كانت من مبادئ البروتستانت - ويكمل قائلاً (وبشكل متناظر، أدى الانهيار الأخير للبروتستانتية في الولايات المتحدة إلى الانحدار الفكري، واختفاء أخلاقات العمل، واستبدالها بالجشع الجماعي (الاسم الرسمي: الليبرالية الجديدة) وبعد صعود الغرب يأتي سقوطه، هذا التحليل للعنصر الديني لا يدل على أي حنين أو رثاء أخلاقي في داخلي بل هو ملاحظة تاريخية) ويقول كذلك (إن تركيز الطبقات الوسطى الغربية على التحول الجنسي يثير سؤالاً اجتماعياً وتاريخياً. إن تشكيل فكرة أن الرجل يمكن أن يصبح امرأة حقاً والمرأة رجلاً في الأفق الاجتماعي يعني تأكيد شيء مستحيل بيولوجياً، وهو ما يعني إنكار الحقيقة. حقيقة العالم، هو إثبات الباطل. «ويضيف: «إن الطبقة الحاكمة الأمريكية خالية من الأخلاق، ولم يعد لديها دين، وكل ما تبقى معها هو هوس بالمال والحرب ونوع من الاستمتاع بخلق الفوضى في جميع أنحاء العالم). بكل أسف لا زال هناك من أسرى الواقعية عالقين في سكرة القوة المدنية بما يخالف منطق الأشياء إلى درجة أن ينتظر البعض القضاء على المقاومة الفلسطينية أو حتى اعتبار ذلك احتمالا ممكناً، رغم أن المنطق الطبيعي يخبرنا أن لا ديمومة لاحتلال مهما بلغ من القوة ولا ثبات لحركة التاريخ مهما غلس ودمس راهن الواقع على حقيقته، لا يتغير منطق الأشياء أمام القوة مهما بلغت.