تغريد إبراهيم الطاسان
بمرور العمر ستعيد نظرتنا للحياة تشكيل صورتها بما يجعلنا نتفهم حاجة الربيع للخريف، سنتعلم كيف نبعد عن دائرة اهتماماتنا كل الأشياء التي لم تعد تعكس لنا ألوان الحياة الزاهية، وأن نسقط عن عاتق طاقاتنا أحمالاً كثيرة ترهقنا، ليكون لدينا متسع لأحمال مستجدة دون ضعف..
سنتعلم من فلسفة الخريف أن الأوراق التي اصفرت وجفت، يصبح تساقطها ضرورة لديمومة الخضرة التي تنبت معها السعادة والحياة من جديد، مع إدراكنا ويقيننا التام أن موتها رغم قرصات الألم إلا أنه لا يعني النهاية بقدر ما هو إعلان عن ميلاد بدايات جديدة..
لذلك.. من المهم، أن نسمح بمساحة نمارس فيها بعض التنازلات، التي لا تتنافى مع قيمنا العليا كنوع من الهبوط الاضطراري، حفاظاً على سلامة العلاقات والتفاعلات والمواقف مع كيمياء الحياة، إلى أن نصل بأرواحنا إلى دورة النضج الكاملة بكل مراحلها.. فنتصالح مع خريف الأوقات ونحن نشعر بالامتنان لكل لحظة جف نبضها فسقطت من غصن الاهتمام، فكان في يباسها وموتها فرصة لولادة فصل حياة جديد بتفاصيل واهتمامات تعيد لأيامنا نضارتها بعد عطش شديد.
علينا أن ندرك، أن من أبسط سبل رفاهية الشعور، أن نجيد ممارسة مبدأ الترك والتغافل والتغابي بين حين وحين، لنمهد الطرق أمام سيل الروح ليسري في مفاصل الحياة بخفة، فيروي شعاب التسامح، والتقبل، والمغفرة، اليقين، والرضا، والتأمل بالنعم.. إلى أن تمتلىء أودية النفس بالرضا مع الذات ومنها يفيض الرضا على المرونة في التعامل وتقبل الآخرين وكذلك الظروف. علينا أن نعمل على تحفيز الذهن وتدريبه على لعبة الحفظ والتخلي ليدخل في منافسة مع الذاكرة، حتى تتدرب وتتعود على جمع مخزون الوجع وضغوط الإحباط والفشل وصفعات الحياة لتلقيها في حاوية التجاهل والنسيان.. في الوقت الذي تروي فيه عروق ذكرياتنا الحلوة لتمنحها الحياة ما دام فينا نفسٌ يتردد.. لتكون هذه الذكريات غذاء روح لنا ونحن في أضعف أوقات العمر.. غذاء غني بمكملات السعادة والامتنان لله ثم لأنفسنا ولكل من.. وما أسعدنا خلال رحلة العمر..
قديماً قالوا: في الترك راحة.. حكمة قديمة تستند على نعمة غفل عنها الكثيرون، مضمونها يقوم على مبدأ.. كلما خلصنا خزانة التذكر من اللحظات نافقة الراحة والفرح، كلما سمحنا للأمل والسعادة بحفر قنوات لسريان السعة والسعادة، وتدفق مزيد من الفرص والنجاحات في فصول حياتنا المختلفة.
تخيلوا معي.. ماذا لو أن كلاً منا زرع داخل نفسه بذور سلام عالية الجودة.. يسقيها بالترفع عن كثير من الأمور.. لتنبت أغصاناً غضة بالمشاعر الإيجابية، التي تسمو بها الروح وتنضج لتتساقط إيجابية جنياً، خالية من المحبطات والمشاعر السلبية، تعطينا مناعة قوية من أضداد الحياة بما يسمح بشهيق عميق يملأ رئتي الحياة بالهدوء والسعادة.. وزفير سلس لكل منغصاتها الطبيعية التي نحملها غالباً أكبر مما تستحق.
تراكمات الحياة بكل محبطاتها.. وضجيجها وصخبها.. وماراثون صراعات القوى التنافسية التي يركض البشر سعياً وراءها في كل اتجاه رغبة في الوصول إلى قمة تسع الجميع لو عرفوا أن لكل منا رزقاً مكتوباً لن يأخذه منه أحد .. تجعلنا نختار الانعزال أحياناً والهرب المؤقت إلى زاوية بعيدة عن الصخب.. نمارس فيها وحدة منتقاة.. رياضتنا فيها الهدوء، وغذاؤنا الصحي هو التأمل.. قوانينها احترام المسافات، وتقدير الحاجة للخلوة والخصوصية، وذلك لضبط تحركنا تجاه البعض بدقة متناهية..
لذلك نحتاج أحياناً لشيء من البعد الصحي عن كل شيء وكل أحد.. حتى من نحب، رغبة منا في الاعتكاف في الطبقات العليا من الشعور، لإدراك طبيعة ما ينتابنا من إحساس أو ارتباك أو تعب أو ملل.. ومن ثم ردم الفجوة التي بدأت تتسع بين هدوئنا الداخلي الذي لا يتنازل عن فرض احترامه علينا.. وبين صخب الحياة الذي نضطر إلى التعامل معه لأنه أساس في الحياة البعد عنه نتيجته فشل وخراب.
باختصار .. هي فلسفة الحياة.. التي تتطلب منا فهماً عميقاً لكيفية حل معادلاتها الصعبة في كيفية تحقيق التوازن بين سكون الداخل الذاتي.. وصخب المحيط الخارجي.. دون أن تتأثر ديناميكية الحياة ليكون الناتج رفاهية شعور وصفاء تفكير نصل من خلالها إلى جودة حياة تجعلنا قيد الإنتاجية العالية بإيجابية وسعادة دائمة.