نظَّم كرسي غازي القصيبي للدراسات التنموية والثقافية محاضرة ثقافية لسعادة الأستاذة الدكتورة لاهاي عبدالحسين الدعمي الأستاذ في جامعة بغداد، وذلك يوم الثلاثاء 23 يناير 2024، وفيما يلي نص المحاضرة:
حظي عالم الاجتماع العراقي الدكتور علي الوردي مؤسس علم الاجتماع، والرائد فيه بشهرة وشعبية واسعة في العراق ما بين أكثرية محبة ومعجبة، وأقلية ناقدة ومنتقدة، ومتذمرة. وبقي يحظى بكل هذا الاهتمام سواء من قبل دور النشر التي طبعت وأعادت طبع أعماله أو جمهور القراء الواسع الذي صار يتناقل علمه وخبرته وآراؤه من جيل إلى آخر. وقد تكون أعماله الأكثر قراءة من قبل جمهور العامة حتى بعد ما يقرب من ثلاثين عاماً على رحيله عام 1995 في بغداد عن عمر ناهز الـ 82 عاماً. حتى نجيب على السؤال وما بعد علي الوردي لا بد من المرور على ما حققه الوردي.
اشتهر علي الوردي بأفكار تقع ضمن نظام فكري عام طوره يقوم على فكرة «ازدواج الشخصية، التناشز الاجتماعي وصراع الحضارة والبداوة»، على أساس قيمي ومعياري وأخلاقي. ولديه مفهومات أخرى يمكن أن تلتقط من أعماله منها: القوقعة البشرية، الشفاعة، الخطية ... إلخ. يمكن القول إن علي الوردي هو أوكست كومت العراق من حيث أنه قدم علم الاجتماع للعراق منذ أن أعطى محاضرته العامة الأولى المعنونة «شخصية الفرد العراقي»، عام 1950. وكان عمل تدريسياً في كلية الملكة عالية للبنات بعد عودته من جامعة تكساس - أوستون الأمريكية بعد حصوله على الدكتوراه في علم الاجتماع عن أطروحته المعنونة: تحليلات اجتماعية لنظرية ابن خلدون، دراسة في علم اجتماع المعرفة. كنت ترجمتها بتصرف بالتركيز على آراء الوردي واستنتاجاته، ونشرت عن طريق مؤسسة المدى عام 2018. معروف أن كومت أول من صاغ تسمية «علم الاجتماع»، وقدمه كفرع مستقل من فروع المعرفة العلمية عن الفلسفة وعلم النفس والبيولوجيا والدراسات الدينية.
وهو تالكوت بارسونز العراق لدوره بتأسيس قسم علم الاجتماع في كلية الآداب، جامعة بغداد عام 1954 بمعية د عبد الجليل الطاهر وفيما بعد التحق آخرون بهما. كان بارسونز أسس أول قسم لعلم الاجتماع كفرع مستقل من فروع المعرفة العلمية في العالم عام 1924 بمعية بيتريم سوروكن في جامعة هارفارد الأمريكية. ثم قدم الوردي عملا اتسم بالشمولية من خلال دراسته المعنونة «دراسة في طبيعة المجتمع العراقي» (1965). رصد الوردي في هذه الدراسة مختلف الجوانب في المجتمع العراقي داعياً إلى إصلاح ذات البين بين الحكومة والشعب بسبب التجارب القاسية التي مر بها في ظل الأنظمة الاستبدادية في التاريخ الحديث مع العثمانيين والانكليز ومن ثم الحكم الوطني الذي لم يستقر على حال بسبب الانقلابات العسكرية المتعاقبة. وهو بذلك قارب بارسونز مؤسس النظرية الوظيفية المعاصرة التي تميزت بالشمولية في محاولة لتقديم رؤية متكاملة للمجتمع البشري يمكن أن يبنى عليها وتطور بالدراسات المتعاقبة والنقد البناء.
وهو ماكس فيبر العراق بحكم اهتمامه بالمعنى والفهم. لا تقل أطروحته في كتاب «وعاظ السلاطين» (1955) أهمية عن كتاب فيبر «Protestant Ethics الجزيرة Spirit of Capitalism»، «أخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية»، حيث (لقاء الدين والاقتصاد) فيما أخذ الوردي (الدين والدولة) معتبراً فترة حكم الرسول والخليفتين أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب النموذج على رسالة الإسلام في النزاهة والورع والتقوى ثم أخذت الدولة بنظره منحى آخر تسبب في إحداث المشاكل والنزاعات. يحسب للوردي أن كتابه هذا صار مصدراً للإلهام سواء على صعيد الدعم والتعزيز أو النقد والتقريع.
وهو إيميل دوركهايم العراق بحكم اهتمامه بالمنهج العلمي وقواعده كما عبر عن ذلك في كتابه «مهزلة العقل البشري»، (1956) وفيما بعد «منطق ابن خلدون» (1962) وفيهما وجه نقداً شديداً للفلسفة بحكم ميلها إلى التجريد والنأي عن الواقع، داعياً إلى التحرر من المنهج الأرسطي الذي يقوم على فكرة المسلمات التي تقود إلى نتائج متوقعة. وضرب مثلاً في مفهوم «الثائر والخائن»، كقوله: كل من تمرد على النظام ثائر؛ فلان تمرد على النظام؛ إذن، فلان ثائر». بالمقابل يقول الخصم: كل من تمرد على النظام خائن؛ فلان تمرد على النظام؛ إذن، فلان خائن». لوقف هذا التداعي غير العلمي ويؤدي إلى نتائج متوقعة دعا الوردي إلى استخدام المنهج العلمي بالسؤال وتعقبه وذلك لتفادي المسلمات النظرية التي تفشل في رصد الحقيقة وتحليلها. وكان كتابه «خوارق اللاشعور» (1952) بحث في الشخصية الإنسانية ومحاولة لاستخدام قوانين علم الفيزياء لتفسير حالات التخاطر والحدس والشعور كجزء من اهتمامه بالفلسفة الوضعية التي أطلقها كومت في مجال العلوم الاجتماعية على سبيل التفحص والتوثق. أعلن في هذا الكتاب نفسه عن التوقف لدراسة حالات اللاشعور علمياً بسبب شحة الدراسات العلمية وعدم التمكن من استخدام المتوفر منها لتجاوز الحالات الفردية وتفسير الظواهر الاجتماعية ذات المدى الأوسع كالنزاعات والحروب والتحولات السياسية والاجتماعية.
قدم في كتابه «أسطورة الأدب الرفيع» (1957) نقداً حاداً للمواقف المحافظة للمشتغلين في مجال الأدب وانحيازهم للسلطة ومن يمثلها على حساب المواطن وحقوقه الأساسية. ناقش أطروحاتهم وتمسكهم بقواعد اللغة والأدب أكثر من تمسكهم برسالة الأدب ليكون سارية تتبعها الجموع لتحقيق التغير والنهوض السياسي والاجتماعي. يعتبر كتابه «الأحلام بين العلم والعقيدة»، (1959) امتداد لكتابه «خوارق اللاشعور»، الذي أكد فيه على استخدام المنهج العلمي لشرح وتحليل ظواهر غيبية بطريقة غير غيبية كما الحال في الأحلام ورؤية الأولياء والأئمة مما جرى تفسير ظهورهم بطريقة تقليدية تبشر أو تنذر اعتماداً على ما ظهر في الحلم. اعتمد في هذا على مفهوم سيجموند فرويد عالم النفس المعروف ومؤسس مدرسة التحليل النفسي على مفهوم «الوعي الباطن»، مشيراً إلى إسهامة سلامة موسى الذي اقترح ترجمة المفهوم بـ»الوعي الكامن. أبدى الوردي موافقته على اقتراح موسى ولكنه اعترف بصعوبة شيوعه وانتشاره وما درج الكتّاب وقراء العربية عليه.
تفرغ علي الوردي فيما بعد لكتابه ذي الأجزاء أو المجلدات الستة مع ملحقين إضافيين والمعنون «لمحات من تاريخ العراق الحديث» حتى بداية السبعينيات. وفي هذا الكتاب نجد تقديماً للوردي لفرع جديد من فروع علم الاجتماع يطلق عليه «علم الاجتماع التاريخي»، الذي استهدف من خلاله قراءة التاريخ من وجهة نظر اجتماعية. بل ومضى في هذا الطريق مستخدماً الإطار النظري الذي طوره وحدثه مستفيداً وبانياً على ما أنجزه العلامة العربي ابن خلدون على صعيد الدولة والمجتمع.
استغرق علي الوردي في عمله عشرين عاماً ما بين الخمسينيات والستينيات وكان القاسم المشترك فيها اهتمامه بالشأن العراقي والمنهج العلمي والنزعة النقدية والنظرة المتطلعة إلى المستقبل. تطلع الوردي إلى المستقبل وأثنى على الديموقراطية كنظام سياسي ضامن لسلامة المجتمع شريطة أن يقبل الفرقاء والأطراف المشاركة فيها بقرار الناخبين واختياراتهم بعيداً عن الفساد المالي والإداري والتلاعب بنتائجها. اعتبر الوردي أن الانتخابات الديموقراطية الحرة والنزيهة المطرقة التي يستخدمها المجتمع للتغيير وإعادة البناء.
يمكن أن توجه انتقادات للدكتور الوردي بسبب تضمينه أقسام من أعمال سابقة في كتب لاحقة ووقوعه في إشكالية التكرار. كما استخدم تعبيرات ساخرة كثيرة بعيداً عما يصطلح عليه بالكتابة المهنية. لم يهتم الوردي بالأسلوب المهني الحديث في الكتابة الأكاديمية ولكنه كان واضحاً على هذا الصعيد مؤكداً أنّه يتوجه للقارئ العام الذي يمثل بنظره الغاية والوسيلة. من جانب آخر، لا بد من الاعتراف بأنّ زملاءه أخذوا عنه ولم يعترفوا له كما في مفهوم «القوقعة البشرية» التي ظهرت في أعمال الوردي قبل أن يظهر كمفهوم رئيسي في أعمال الدكتور عبد الجليل الطاهر. وكذلك مفهوم «الإزدواجية»، التي سماها قيس النوري «ثنائية الريف والمدينة». كما أسيء فهم الوردي عندما ظن البعض أنّه مؤرخ وليس عالم اجتماع بسبب مشروعه «لمحات من تاريخ العراق الحديث». ولا تزال وجهات نظر كهذه تشيع في أوساط متعددة وبخاصة خارج ميدان علم الاجتماع. على سبيل المثال، أعلن قبل أيام عن مناقشة رسالة ماجستير في قسم التاريخ كلية الآداب جامعة البصرة حملت عنوان، «تاريخ العراق الحديث والمعاصر في كتابات علي الوردي». وهذا غير صحيح لأن علي الوردي لم يكتب تاريخاً للعراق، وإنما فسر تاريخ المجتمع العراقي من وجهة نظر اجتماعية سوسيولوجية. وقد أشاد الوردي بنوعية الدراسات العلمية التي نوقشت على مستوى منح شهادات الماجستير والدكتوراه في قسم التاريخ في كلية الآداب، جامعة بغداد لعلميتها ورصانتها التي أهلتها لتكون مصادر مهمة اعتمد عليها في دراساته.
اختلف معه زملاءه الأكاديميين من أمثال عالم الأنثروبولوجيا العراقي الدكتور شاكر مصطفى سليم والدكتور قيس النوري والدكتور متعب السامرائي والدكتور حاتم الكعبي والدكتور معن عمر خليل وآخرين بسبب أسلوبه في الكتابة وعدم اهتمامه بالجوانب المهنية المتعارف عليها في الدوريات العربية. ولكن الوردي يقف متفرداً وربما زاد في عزلته الأكاديمية على الضد من الشعبية والإعجاب والمحبة التي حظي بها من قبل جمهور العامة سواء في العراق أو البلدان العربية ومنها المملكة العربية السعودية.
السؤال، هل ضمر علم الاجتماع بعد علي الوردي! بالتأكيد، لا. فقد أعلن عن إطلاق الدراسات العليا عام 1972 لمنح شهادات الماجستير والتي عارضها الوردي وشاكر مصطفى سليم لاعتقادهما أنّ القسم غير مؤهل لمنح شهادات عليا من هذا النوع. ولهذا السبب اكتفى الوردي بالإشراف على رسالتي ماجستير وامتنع فيما بعد عن الإشراف. امتنع شاكر مصطفى سليم كذلك ولنفس السبب عن الإشراف، كليةً. استمرت الدراسات العليا في قسم الاجتماع كلية الآداب جامعة بغداد في التدفق حتى صدر منها 390 رسالة حتى عام 2022 حسب دراسة غير منشورة قام بها الدكتور خالد حنتوش. وفقاً لهذه الدراسة افتتحت الدراسات العليا لمنح شهادة الدكتوراه عام 1987 حتى بلغ عدد الأطروحات المجازة 218 حتى عام 2022 . بلغ المجموع الكلي 608 ما بين رسالة وأطروحة. بيد أنّ هذه الرسائل والأطروحات لم تتطور باتجاه معين وظلت بدرجة كبيرة تتبع ظل المدرسة الوظيفية المحافظة. وحظيت بغداد كمدينة بحصة الأسد في الدراسات الميدانية التي قام بها الطلبة بسبب الكلفة المرتفعة التي يمكن تكبدها خارج بغداد. وظهر أن هناك تفاوت على مستوى سياسة القبول لصالح الذكور على حساب الإناث. بالتأكيد لعب النظام السياسي دوراً مهماً في تقييد قسم علم الاجتماع بسبب غياب مفهوم «الحرية الأكاديمية» و»الحصانة الأكاديمية»، المطلوبة لحماية الباحث في سبر غور القضايا الاجتماعية ذات الطبيعة الجدالية والإشكالية. كما كان للموقف السياسي المتشكك من الوردي أنْ حدّ من العمل على أفكاره وإخضاعها للتحليل والبحث العلمي لدحضها، أو تعزيزها تبعاً للنتيجة التي يمليها البحث العلمي. لم يحدث ذلك. ولعل هذا هو السبب الذي حال دون تأسيس مدرسة قائمة لعلم الاجتماع العراقي التي كان يمكن أن تكون ملهمة لنشوء مدارس رديفة في بلدان عربية أخرى.
ظهرت أعمال د فالح عبد الجبار الذي رأس مركز الدراسات العراقية في بيروت ووجه اهتمامه لعلم الاجتماع السياسي. من أهم كتبه كتاب «العمامة والأفندي» (2003) الذي اهتم في الإسلام السياسي الشيعي، وكتابه «الدولة وعودة اللوياثان الجديد»، «دولة الخلافة: التقدم إلى الماضي»، أعاد ترجمة كتاب «رأس المال» عن الألمانية إلى جانب أعمال أخرى. بالنسبة لي أخذت طريق الدوريات العربية ووضعت محاولة لتقديم فرع جديد هو علم اجتماع الأدب من خلال دراستي لعينة من الروايات العراقية والتي أعطيتها عنوان «من الأدب إلى العلم: دراسة في علم اجتماع القصة والرواية العراقية للفترة 1920- 2020»، عن دار الشؤون الثقافية (2021)، بغداد، وكتاب في «علم اجتماع الحياة العامة»، تضمن مقالاتي في الشأن السياسي والاجتماعي العام وصدر عن دار المدى العراقية عام 2022 كجزء من التقديم لفرع علم اجتماع الحياة العامة الذي اقترحه أولاً مايكل بيوراوي في خطابه الرئاسي إلى الجمعية الأمريكية لعلم الاجتماع تمييزاً له عن علم الاجتماع المهني بصيغته الكلاسيكية والشائعة.
لم يحظ علي الوردي ومن أعقبه بدعم مؤسسي، بل كنا مطالبين بالتركيز على المحاضرات فيما نقوم بالبحث العلمي وفق استعداداتنا الشخصية وإمكاناتنا. معروف أن البحث الاجتماعي والأنثروبولوجي يتطلب الكثير من المال ولهذا السبب مال علي الوردي إلى التاريخ لإعادة تفسيره من وجهة نظر اجتماعية وملت إلى الأدب لنفس السبب. اليوم، فإنّ أقسام علم الاجتماع تواجه تحديات كبيرة، إذ لا زالت الكثير من القضايا الاجتماعية طي الكتمان أو موضوعاً للبحث الكيفي. ويبدو لي أن الذكاء الاصطناعي يلقي بتبعة ثقيلة على علم الاجتماع في بلداننا العربية ما لم يتحرك التدريسيون للتحكم بطريقة استخدامه ومنع الانهيار الذي يهدد مستقبل العلم لدينا. ربما علينا أن نلاحظ أنه في الوقت الذي يعتبر به الغرب الذكاء الاصطناعي امتداد لطريقة take home exam or open book exam فإن طلبتنا يميلون إلى طريقة copy paste وهذا ما يتطلب تدخلاً جاداً ومسؤولاً للحيلولة دون المزيد من التدهور والارتفاع إلى مستوى التحدي الذي تفرضه ثورة التقنيات الحديثة في تناول مختلف القضايا الاجتماعية.