حسن اليمني
لم يستطع الكيان الصهيوني من تحقيق أي إنجاز معتبر في حربه التي شنها على غزة منذ أربعة أشهر، ولم يعد هناك مبرر يستند إليه في استمرار هذه الحرب التي كلفته خسائر في الأرواح والمعدات وبالتالي أصبح لا بد من مخرج استدعى الغرب ممثلاً في أمريكا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا لإعلان ضرورة قيام دولة فلسطينية.
معروف أن اتفاقية أوسلو الموقعة قبل عقود بين منظمة التحرير الفلسطينية والكيان المحتل كانت لإنهاء النزاع والاعتراف بدولة للفلسطينيين وانتهت بمقتل رابين وعرفات ودفن كل آليات تلك الاتفاقية فيما عدا التعاون الأمني، ومن الطبيعي اليوم أن يفهم المتابع للأحداث أن عودة أمريكا وبريطانيا للحديث عن دولة فلسطينية يقتضيها الموقف لإطفاء لهيب السابع من أكتوبر، ومع هذا لا زال الكيان المحتل يرفض ذلك ويبحث عن صناعة محتوى الضفة الغربية في غزة تلك التي تبقي غزة تحت الاحتلال غير المباشر بهيئة استقلال حامٍ لأمن الكيان، غير أن من يسيطر على غزة مختلف لا يتفق مع الوضع القائم في الضفة الغربية بموجب اتفاقية أوسلو بما يخلق عراقيل تحول دون تحقيق ذلك.
يقول «توماس فريدمان» وهو كاتب قريب ومؤثر في دهاليز السياسية الأمريكية والإسرائيلية في مقترح له (لابد لبايدن من إعلان مبادرة دبلوماسية أمريكية غير مسبوقة للترويج لقيام دولة فلسطينية. ويتضمن ذلك «شكلاً ما من أشكال الاعتراف بدولة فلسطينية منزوعة السلاح في الضفة الغربية وقطاع غزة، والتي لن تظهر إلى الوجود إلا بعد أن يطور الفلسطينيون مجموعة من المؤسسات والقدرات الأمنية المحددة وذات المصداقية) وهو فعلاً الأمر المحتمل خلف ظهور إنشاء دولة للفلسطينيين من قبل أمريكا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا كعمل مكرر لإطفاء لهيب طوفان الأقصى وبما يعني أن الحلول الحقيقية للقضية الفلسطينية ما زالت بعيدة جداً عن إرادة حلفاء الكيان المحتل إضافة إلى بقاء رفض الكيان من الأصل لمثل هذه الفكرة.
من الناحية الأخرى أي الجانب الفلسطيني المقاوم فإن الحديث يدور حول ضرورة خروج قوات الاحتلال من قطاع غزة تماماً ووقف لإطلاق النار يضمن من قبل قوى (عادلة) مثل روسيا والصين وفك الحصار تماماً عن غزة ليتم بعد ذلك العمل على تبادل الأسرى، وهو أمر يظهر البون الشاسع ما بين الطرفين, بل إن هذه العملية المقترحة بمثل هذا الطرح يكشف عن حقيقة الوهم والخداع الذي يغلفها بريق لامع, لكنها على كل حال مرفوضة من قبل الكيان المحتل الذي يهمه اليوم تحرير أسراه ليتحرر من القيود في مواصلة عدوانه.
رفض الكيان الصهيوني يظهر حقيقة التباين بينه وبين الإدارة الأمريكية ويكشف باطن اللعبة بشكل جلي وأن الأمر لا يعدو أكثر من بحث الطرفين الكيان والولايات المتحدة عن سبل تحرير أسرى الكيان الصهيوني لدى المقاومة للتخلص من حمل وزرهم أمام الداخل الإسرائيلي ومن ثم تهيئة الظروف المعينة والمساعدة للقضاء على فصائل المقاومة الفلسطينية مهما أخذت من وقت هكذا يريد نتنياهو للقفز على قضايا تلاحقه في الداخل باستثمار تحرير الأسرى لإزاحة هذا الضغط الداخلي ثم العودة مرة أخرى للحرب من خلال اغتيال ربما عبد الله البرغوثي أو مروان البرغوثي أو أحمد سعدات بعد إطلاق سراحهم خضوعاً لشروط المقاومة في عملية تبادل الأسرى بما يعيد إشعال الحرب لتحقيق غاية القضاء على المقاومة وبما يدعم ويقوي اليمين المتطرف حلفاء نتنياهو ويحميه ويبقيه على رأس السلطة، في حين يرى الجانب الأمريكي أنه بالإمكان القضاء على المقاومة الفلسطينية من خلال شروط قيام دولة فلسطينية ستأخذ أعواماً في مفاوضات لن تصل في النهاية لما هو أكثر مما هو موجود في الضفة الغربية بما يعتقد الأمريكان أنه الطريق الأفضل لتنشيط عمليات التطبيع ودمج الكيان المحتل في منظومة المنطقة اقتصادياً وأمنياً ليساعد في تهجين الدولة المحتملة منزوعة الأنياب، والواقع إن كلا المسارين المتشابهان يتجاهلان بشكل تام حقيقة منطق مقاومة الاحتلال، هذا المنطق الذي يعيش كفكر في عقول أي شعب تحت الاحتلال وأن حماس والجهاد ليستا إلا شراراً لهذه المقاومة التي تشبه النار المشتعلة في العقول والقلوب إن خمدت تحت ظرف عادت من جديد في ظرف آخر أقوى وأشد بطريقة البناء على ما سبق وترقيته وتطويره، وإذا كان طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر الماضي هزم الكيان الصهيوني دون إزالتها ولكن بالعودة لإحياء مشروع الدولة الفلسطينية فلا أحد يضمن أن طوفان أقصى آخر قادم بعد فترة زمنية لتحرير الأرض والوطن وليس فقط أسرى السجون لدى الكيان.
ومما قال «توماس فريدمان» أيضاً (أعلم على وجه اليقين إن السابع من أكتوبر يفرض إعادة تفكير جذرية في الشرق الأوسط داخل إدارة بايدن، وتشير عملية إعادة التفكير الجارية إلى إدراك أنه لم يعد بإمكاننا السماح لإيران بمحاولة إخراجنا من المنطقة، ودفع إسرائيل إلى الانقراض (...) كما تشير إلى الوعي بأن الولايات المتحدة لن تتمتع أبداً بالشرعية العالمية، ما لم تتوقف عن السماح لنتنياهو بإبقاء سياستنا رهينة لديه) والحقيقة أن استعارة إحلال إيران محل المقاومة الفلسطينية والموقف العربي وقوة عظمى قادمة أو طامحة لسيادة المنطقة بدل أمريكا وهي الصين يكشف بشكل واضح لعبة خداع للعقل لدى «فريدمان» وربما أيضاً لدى الإدارة الأمريكية ولعل ذلك نتيجة صناعة الكذبة ثم تصديقها والبناء عليها, لكن أن تتوقف الإدارة الأمريكية عن السماح لنتنياهو بإبقاء سياسة البيت الأبيض رهينة لديه هذا صحيح ويستدعي إضافة المنطق الصائب وهو أن توثيق علاقتها بالعرب هو أكبر وأعظم فائدة وأصدق أخلاقياً من بقاء علاقة الارتهان للكيان المحتل الذي أصبح فعلاً وحقيقة خطراً يهدد بخروج أمريكا ذاتها من المنطقة.
إن تجاهل الحقائق والاعتبارات المنطقية في قضية استمرت أكثر من سبعين عاماً دون ملامح حل عادل وتكرار حلول أثبتت فشلها مرة تلو أخرى جعل أنصاف الحلول مدداً زمنية لشد وتقوية صلابة الصراع بما تجاوز زوال الكيان المحتل إلى ظهور هاجس زوال الوجود الأمريكي من المنطقة، وحري بالولايات المتحدة الأمريكية أن تتحرر من استعلائها بقوتها المدنية وأن تعود لقيمها ومبادئها الأخلاقية التي كسبت بها سيادة العالم وإلا فإن السيادة في العالم للقيم والمبادئ الأخلاقية سواء كانت أمريكا أو غيرها، وأولى قواعد هذه القيم والمبادئ الأخلاقية يحكمه ميزان العدل والإنصاف الذي خرجت عليه الولايات المتحدة الأمريكية خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي, ولا يمكن تشبيه وجود الاحتلال الصهيوني لفلسطين بما حدث في أمريكا الشمالية وأستراليا أو الرهان على ذلك لأن فجر السابع من أكتوبر أكد أننا في عصر مختلف بأدواته ومعطياته.