د. محمد بن إبراهيم الملحم
انتشرت الأسبوع المنصرم تغريدة لرجل فاضل يدعى أحمد بن متعب الغامدي روى فيها ما اعتاد والده الكريم أن يقوله له وهو صغير خشية عليه من الضياع أثناء تسوقهم حيث يقول له دائما إذا تهت عنا فاذهب للمسجد فسوف تجدني هناك، ولما كبر الرجل وصار رجلاً ظل والده يوصيه نفس الوصية! وفي ذلك عبرة إذ تغير المعنى هنا من ذلك الحسي لطفل صغير إلى المعنى المعنوي لفتى يافع أو شاب كبير يدبر أمره بنفسه بكل ثقة بيد أنه فعلاً يحتاج أن يذهب إلى المسجد إذا ما ضاع عن طريق والديه وأهله طريق التقوى والهداية، تغريدة جميلة عميقة لامست شغاف قلوب كل من اطلع عليها فبادر الناس بتداولها بشكل كبير عبر الواتس أب، فهم يرون أمامهم يومياً تقريباً أفواجاً من التائهين بحاجة إلى تبني هذا الفكرة الجديدة وتجربتها للعودة إلى أهليهم عبر طريق المسجد، فهناك يكون التدبر وحالة التأمل العميق والشفافية والصدق مع الذات التي سترشده إلى الطريق وتنهي أزمة ضياعه التي يعيشها، والأمر لا يحتاج إلى أكثر من ممارسة ما يتطلبه المسجد من خشوع وسكون وروية وإنابة فهذا هو جو المسجد الذي أنشئ لأجله، وهو الصورة المثالية للمسجد الذي يؤدي دوره في أخذ كل تائه إلى أهله وذاته وهويته الأساس مرة أخرى، الخشوع والسكينة والتأني في ممارسات هذا المسجد التي وضع لأجلها: الصلاة وقراءة القرآن بتدبر والدعاء والتضرع، هل نتصور أحداً «تائهاً» عن أهله يطبق هذه الثلاثة بأمانة واحترافية في أي مسجد ولا يعثر عليهم؟
مسجد الضائعين هذا منتشر في كل مكان ببلادنا ولله الحمد، في الأسواق والأحياء والمكاتب وحتى في أماكن النزهة واللهو، ولا يحتاج أحد شبابنا سوى أن يعيش التجربة مع المسجد كما يعيشها مع أي «هبّة» جديدة تدخل الخدمة في شوارعنا ومطاعمنا وأسواقنا اليوم، كما جرب السينما، وكما جرب التسكع في المقاهي واللاونجات والأسواق، بحثاً عن المتعة والمرح، وتحقيقاً لمطلب السعادة والسرور والشعور بالنشوة، فعليه إذا ما تعودت مشاعره على تلك المصادر للوناسة وربما أحس بشيء من الملل أن يجرب مصدراً جديداً للسعادة جوارها (وربما بدلاً عنها) وهو المسجد.
تغريدة مسجد الضائعين تستحق أن تُدرّس، فيدرِّسُها كل الآباء والأمهات لأولادهم، وتدرِّسُها كل المدارس لطلبتها ذكوراً وإناثاً، ثقافة المسجد تستحق التأمل والتوقف أمامها طويلاً، فهناك قائمة طويلة من المفاهيم والممارسات التعبدية القولية والفعلية غير الصلاة كلها ترسم هوية المسجد الاجتماعية والسلوكية، إنه مدرسة متكاملة ومشفى صامت للأزمات النفسية، مدارسنا ينبغي لها أن ترسم صورة المسجد الحقيقية والتي غابت عن كثير من الناس اليوم، أو لنقل تعيد رسمها في أذهان الطلاب ليعيدوا النظر في علاقتهم بالمسجد وكيف يمكنه أن يصنع السعادة ويعزز الثقة بالنفس ويرسم الابتسامة ويرتقي بالفكر ويصفي الأفكار ويسمو بالذات ليحلق بها في نهايات الإبداع ومنتهى الطموح.