د. غالب محمد طه
«دعوها فإنها مأمورة»، أي شرف ذاك، وأي مكانة تلك التي حظيت بها القصواء ناقة أفضل البشر وهي تحمله مهاجراً إلى المدينة المنورة، ناقة صارت الأشهر في مجمل التاريخ الإسلامي العظيم.
للإبل في الجزيرة العربية مكانة آثرة ومؤثرة في حياة الإنسان، وقصة ضاربة في جزر التاريخ العربي، الجِمال لا غنى عنها في تلك الفترة وحتى يومنا هذا باختلاف استعمالاتها كاتخاذها وسيلة للنقل والانتقال وفي الحرب والسلم إلى الفخر والتفاخر والهواية، تاريخ طويل حمله الجَمل في سنامه، وتنسمه الإنسان حباً وعشقاً وملازمة.
وقد خصها الله تعالى بالذكر لاقترانها بالإيمان وتبيان أوجه قوتها وبديع خلقها العزيز مما يدل على جلالتها وتعظيمها وكثرة الانتفاع بها، وأنها من أكرم النّعم التي جعلها الله آية تستحقّ التّدبر وعبرة في الخلق تستوجب التفكر فقال جلّ في علاه: {أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} (الغاشية: 17).
ويفسر ابن كثير هذه الآية الكريمة فيقول إن الله تعالى آمراً عباده بالنظر في مخلوقاته الدالة على قدرته وعظمته فإنها خلق عجيب، وتركيبها غريب، فإنها في غاية القوة والشدة، وهي مع ذلك تلين للحمل الثقيل، وتنقاد للقائد الضعيف، وتؤكل، وينتفع بوبرها، ويشرب لبنها. ونبهوا بذلك لأن العرب غالب دوابهم كانت الإبل، وكان شريح القاضي يقول: اخرجوا بنا حتى ننظر إلى الإبل كيف خلقت.
وتبارى الشعراء والفوارس في التغني لها حيث لا ينفع التفاخر إلا ابتداءً بها، فهي لنسائهم مهراً ولقتلاهم دية، ولسادتهم عزة وشرفاً ومالاً، ألبانها ولحومها رفادة فهي مظهر السيادة والشرف.
ونستعذب بيتاً للمتنبي حين يخاطب المرأة:
سلي عن سيرتي فرسي وسيفي
ورمحي والهملعة الدفاقا
ونجد الناقة عند عنترة بن شداد العبسي مُلهمه ولها القدرة على أن توصيله إلى المحبوبة، فكثيراً ما كان يوقف ناقته في دار عبلة ثم يشبهها بقصر عظمها وضخم جرمها:
هَل تُبْلِغَنِّي دَارَهَا شَدَنِيَّة
لُعِنَتِ بِمَحْرُومِ الشَّرَابِ مُصَرَّم
وقال شهاب الدين الأبشيهي في كتابه المستطرف في فن مستطرف عن الإبل: ما خلق الله شيئاً من الدواب خيراً من الإبل.
إن حملت أثقلت، وإن سارت أبعدت، وإن حلبت أروت، وإن نحرت أشبعت.
وفي الحديث: «الإبل عز لأهلها والغنم بركة، والخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة»، وهي من الحيوان العجيب، وإن كان عجبه قد سقط لكثرة مخالطته الناس، وقد أطاعها الله للآدمي وغيره حتى قيل: إن قطاراً كان ببعض حبله دهن، فمرت فأرة، فجذبته، فسار معها القطار بواسطة جذبها له، وهي مراكب البر.
ونكتفي من سيرتها وعظيم مكانتها عند العرب على قيام حرب ضروس من أجلها قطعت بسببها الأرحام، واستطالت بها الأيام والسنون بلغت الأربعين حولاً، فهي حاضرة في أشعار العرب وملاحمهم الخالدة وظلت الإبل عبر تاريخها التليد شرفاً تتوارثه الأجيال.
2024 عام أحفاد القصواء في المملكة، ولعل أبلغ تقدير لدور الإبل في المجتمع السعودي كثقافة وهوية تاريخية تخصيص القيادة السعودية لهذا العام للاحتفاء بالإبل كجزء من التراث الثقافي للمملكة تأصيلاً لمكانتها والمحافظة عليه ونقله للأجيال كتاريخ مؤثر ومتقد مما يؤكد حرص القيادة على التراث والثقافة والاعتزاز بها.
وتخصيص هذا العام للاحتفاء بالإبل فرصة سانحة للتعريف بثقافة المملكة بصورة خاصة ومنطقة الخليج وبالثقافة العربية على العموم للقادمين للمنطقة العربية.
هذا الاحتفاء يلقي الضوء أكثر على دور الإبل في التطور الحضاري للمملكة عبر رحلات الاستكشاف وطلب العلم والتجارة، وأهميتها الاقتصادية ودورها في تحقيق الأمن الغذائي، والتعريف بالقيمة الحضارية للإبل واقتصادياتها، وموروثها الثقافي والتاريخي العريق، والتي جعلت الإبل تتبوأ مكانتها المرموقة في الثقافة السعودية.
ونشير هنا إلى نجاح المملكة في تسجيل «حداء الإبل» ضمن القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم الثقافة «اليونسكو» والذي يُعرف بأنه أحد أشكال التعابير الشفهية التقليدية ووسيلة للتواصل بين الإبل ورعاتها، ولا شك أن في هذا التسجيل اعترافاً بالهوية الوطنية وترسيخاً للموروث الوطني على المستوي الدولي الأمر الذي يعزز من حفظ هذا المخزون الشفهي الذي يسجل كل تاريخ الجزيرة العربية وتاريخ صحرائها وصوت حدائها الذي يسكن قلوب المحبين المتعلقة بأستار الكعبة إلى يوم البَعْث.
يا راحلين إلى منىً بقيادي
هيجتموُ يوم الرحيل فؤادي
حرَّمتمو جفني المنام لبُعدكم
يا ساكنين المنحنى والوادي
سرتم وسار دليلكم يا وحشتي
العِيسُ أطربني وصوت الحادي
ويعتبر ترؤس المملكة السنة الدولية للإبليات 2024م تتويجاً لجهودها في تطوير قطاع الإبل وتتويجاً لجهودها الحثيثة في الاهتمام بقطاع الإبليات ويأتي كل ذلك في وقتٍ تقوم فيه المملكة بوضع استراتيجيات وخطط مهمة، لجعل قطاع الإبل أكثر إنتاجية واستدامة لتعزيز الأمن الغذائي، وقيامها بلعب دور رائد إقليمياً وعالمياً؛ لدعم التنمية المستدامة في قطاع الإبل وهو ما تتوج أخيراً برئاستها السنة الدولية للإبليات.
وليس أبلغ من ذلك احتفاء دول العالم في كل عام باليوم العالمي للإبل الذي أقرّته الأمم المتحدة ضمن أيّامها العالمية، إذ يأتي التذكير بالإبل كمخلوق مُعمّر ورفيق للإنسان منذ آلاف السنين وموروث مرتبط بالثقافات القديمة.
وأختم بأبيات طرفة بن العبد:
إِنّي لَأَمضي الهَمَّ عِندَ اِحتِضارِهِ
بِعَوجاءَ مِرقالٍ تَروحُ وَتَغتَدي
أَمونٍ كَأَلواحِ الأَرانِ نَصَأتُها
عَلى لاحِبٍ كَأَنَّهُ ظَهرُ بُرجُدِ
جَماليَّةٍ وَجناءَ تَردي كَأَنَّها
سَفَنَّجَةٌ تَبري لِأَزعَرَ أَربَدِ