عبدالرحمن الحبيب
تبدو حكايات استغلال الأصول المعدنية مثل الفضة والنحاس والحديد من آثار الماضي، وأننا أصبحنا مستقلين عن هذه المكونات المادية من حولنا، لكنها مواد أساسية للاقتصاد الحديث، بل إننا الآن أكثر اعتمادًا عليها من أي وقت مضى، إذ يحصل حالياً سباق محموم على المعادن التي سنحتاجها للألواح الشمسية وكابلات الألياف الضوئية التي تنسج شبكة الويب العالمية، والعروق النحاسية لشبكاتنا الكهربائية، ورقائق السيليكون وبطاريات الليثيوم التي تزوّد هواتفنا وسياراتنا بالطاقة، وتصنع الأدوية المنقذة للحياة، وتبني منازلنا والبُنى التحتية الأخرى التي سنحتاج إليها في العقود القادمة.. فحياتنا في القرن الحادي والعشرين لا تزال متجذرة في العالم المادي..
هذا ما تضمنه كتاب «العالم المادي» (Material World) مع عنوان فرعي: المواد الخام الست التي تشكل الحضارة الحديثة، لمؤلفه إد كونواي. الكتاب يوضح أن الرمل والملح والحديد والنحاس والنفط والليثيوم بنت عالمنا، وسوف تغير مستقبلنا.. خلقت هذه المواد الأساسية إمبراطوريات، ودمرت حضارات، وغذت براعتنا وجشعنا لآلاف السنين. وبدونها لن يكون لعالمنا الحديث وجود، والمعركة للسيطرة عليها ستحدد مستقبلنا. في الواقع، لقد استخرجنا من الأرض في عام 2017 كميات أكبر من تلك التي استخرجناها في تاريخ البشرية بأكمله قبل عام 1950؛ ومقابل كل طن من الوقود الأحفوري، نستخرج ستة أطنان من المواد الأخرى، من الرمل إلى الحجر إلى الخشب إلى المعدن.. ويتنافس صانعو البطاريات والشركات التي يزودونها لتأمين الوصول إلى الليثيوم للبطاريات.. تخوض الصين والغرب منافسة عالمية للسيطرة على رقائق السيليكون في ملايين الأجهزة.
يقول المؤلف عن الكتاب: عندما بدأت كتابته بدا وكأنه موضوع مهم ومثير. لقد كنت أشعر دائما أننا نعتبر صواميل ومسامير العالم أمراً مفروغاً منه ومسلم به.. كل شيء بدءًا من الشبكات الكهربائية التي تحافظ على إمداد منازلنا وشركاتنا بالطاقة إلى الفولاذ الذي يدعم مبانينا. أعتقدت أن كتابًا عن كيفية عمل كل هذه الأشياء وسبب أهميتها قد يكون مساهمة مفيدة في النقاش العام. هذه هي قصة العالم الحديث، وقليل من تاريخنا وبعض اللمحات عن المستقبل، تُروى من خلال عيون المواد التي لا يمكننا الاستغناء عنها. إنه قليل من الاقتصاد، وقليل من الجيولوجيا، وقليل من السياسة، وعلوم المواد، والكثير من التقارير الميدانية من جميع أنحاء العالم.
المؤلف يعمل محرراً اقتصادياً في صحيفة سكاي نيوز البريطانية ويسافر حول العالم، من السراديب الحارقة لأعمق منجم في أوروبا، إلى مصانع رقائق السيليكون الناصعة في تايوان، إلى البرك الخضراء الغريبة، حيث ينشأ الليثيوم، كل ذلك للكشف عن عالم سري نادرًا ما نراه.. ويعبر محطات تاريخية، سارداً قصة أحد الاشتباكات البحرية الأولى في الحرب العالمية الأولى التي حدثت قبالة ساحل المحيط الهادئ في تشيلي، حيث كانت ألمانيا وبريطانيا تتقاتلان للسيطرة على النترات اللازمة لصنع المتفجرات. وفي وقت لاحق، على الرغم من هوس الزعيم الصيني ماو تسي تونج بإنتاج الصلب في خمسينيات القرن العشرين، لم تتمكن الصين من إنتاج قلم حبر جاف من الفولاذ عالي الجودة حتى عام 2015، حسبما اشتكى رئيس مجلس الدولة لي كه تشيانج. أما تركيز الصين المستمر على تأمين المواد الخام من إفريقيا من خلال مبادرة الحزام والطريق فقد أتى بثماره في الليثيوم.
والاستنتاج الواضح - حسب الكتاب - هو أن البلدان الفائزة في المستقبل هي التي تمتلك أو تسيطر على أغلب الأصول المعدنية: فهي سوف تكون قادرة على تصنيع أكبر عدد ممكن من السيارات ورقائق الكمبيوتر بأقل التكاليف. لكن الأمر ليس بهذه البساطة.. فالدول تحتاج أيضًا إلى أن تكون قادرة على صنع رقائق السيليكون المناسبة، وحفرها باستخدام أكثر الآلات تطورًا.. فيما تحاول الولايات المتحدة إلحاق الضرر بالصين من خلال منع الوصول إلى أحدث الأدوات المناسبة لتصنيع رقائق الكمبيوتر..
الكتاب يمكن اعتباره دراسة حول كيفية قيام ست مواد مهمة - النحاس والحديد والليثيوم والنفط والملح والرمال - بتغيير تاريخ البشرية ودعم الاقتصاد الحديث. يمكن للمرء أن يعترض على حصر هذه المواد الستة، فماذا عن الكوبلت أو النيكل أو البلاتين؟ لكنها كافية لتوضيح وجهة نظر المؤلف في مدى الأهمية العظمى للمواد الأولية التي كنا نظنها من بقايا اقتصاديات الماضي.
بقي أن نذكر أن للمؤلف رأياً مفاجئاً، فبينما تسعى البلدان إلى إزالة انبعاثات الكربون، وهناك معركة محتدمة للسيطرة على إمداداتها، فهو يرى أنه لكي نكون نظيفين وخضر، ونصل إلى صافي الصفر الكربوني، نحتاج أولاً إلى أن نتسخ.. فالحقيقة هي أن بناء توربينات الرياح والألواح الشمسية يتطلب الكربون. وعلينا أن نعترف بأن الانبعاثات يجب أن ترتفع قبل أن تنخفض..