محمد بن عيسى الكنعان
أبسط إجابة يمكن أن تتلقاها عن سؤال يبحث في أهمية تأسيس الدولة السعودية، وتثبيت أركانها، ثم توحيدها هو تحقيق الأمن وسيادة الاستقرار، خاصةً أن وسط الجزيرة العربية - وبالذات نجد العذية - لم يحظ بالاهتمام والرعاية والإنفاق كما هو الحال بالنسبة لإقليمي الحجاز والأحساء، من قبل الدولة العثمانية، التي كانت مسيطرة في ذلك الوقت، وترى في نفسها السيادة العامة على البلاد العربية ضمن السلطنة. غير أن هذه الإجابة - وإن كانت صحيحة في جانب كبير من الحقيقة - إلا أن هناك حقائق أخرى تُثبت أن الدولة السعودية التي بزغ فجرها الصادق كانت خير وفير، وأمن عميم، وكرامة عزيزة لكل أراضي الجزيرة العربية، بل إن قيمة وحدتنا الوطنية، التي نعيشها اليوم تحت رايتنا السعودية الخالدة لا يمكن أن نستوعبها إلا عندما نقرأ أو نسمع عن تفاصيل تاريخنا السعودي في سجل تاريخ الخليج والجزيرة العربية لثلاثة قرون مضت.
فالدولة السعودية الأولى تأسست العام 1727م على يد الإمام محمد بن سعود بن مقرن بن مرخان بن إبراهيم بن موسى بن ربيعة بن مانع من عشيرة المردة من بني حنيفة، كانت أول دولة مركزية تنشأ في الجزيرة العربية بعد سنوات الخلافة الراشدة، متخذةً الدرعية عاصمةً لها، التي أصلًا تأسست 1446م (850هـ) على يد مانع المريدي جد آل سعود. ثم كانت الدولة السعودية الثانية التي تأسست عام 1818م على يد الإمام تركي بن عبد الله (راع الأجرب) بن محمد بن سعود، رحمه الله، مؤكدةً أن الدول الفتية والكريمة تشيخ لكنها - بحول الله وقوته - لا تموت، أما الدولة السعودية الثالثة التي نعيش في كنفها اليوم - ولله الحمد - فقد توحدت على يد الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل بن تركي بن عبد الله آل سعود - طيب الله ثراه -. فكانت وما زالت دولة حديثة، مهيبة، مترامية الجغرافيا، رائدة في إقليمها، وذات مكانة مرموقة في عالم اليوم اسمها المملكة العربية السعودية. هذه المسيرة التاريخية - الموجزة - لأطوار مملكتنا الغالية تُشكل الإطار العام لتاريخنا السعودي، أما التفاصيل التاريخية بكل أحداثها، وروايتها، ومواقفها، وأطرافها فهي تعكس قيمة وحدتنا الوطنية المتينة.
تلك التفاصيل لا تقف عند تحقيق الأمن، سواءً في بلدات نجد أو طرق الحج، بل في استقلال أهل الجزيرة العربية - وليست نجد فحسب - عن حكم الغازي التركي والجيش المعتدي، الذي جاء من بلاد بعيدة، بثقافته المختلفة، ولغته المكسرة، وجيوشه المدربة، وأمواله الطائلة لحكم شبة الجزيرة العربية بحجة أمة واحدة، وهو لا يعرف أدنى متطلبات الوحدة الإسلامية، جاء ذلك الغازي رافضًا عروبة الجزيرة العربية؛ لأنها أعلنت عن نفسها في بوتقة دولة مستقلة اتخذت من نجد مركزًا لها، ثم بسطت نفوذها بولاء كل قبائلها على كامل تراب الجزيرة العربية، حتى ضمت الحرمين الشريفين تحت رايتها وبحمى سنانها، بل كان خراجها وواجب زكاتها يأتيها من كل أصقاع الجزيرة، وبعض الدول المحاذية ولاءً للدول السعودية.
تلك التفاصيل تكشف أن الغازي والجيش المعتدي كان يصنع المكائد بين القبائل لتٌحارب نفسها، أو يُطمعها بالأموال الغنائم، ثم يوظفها في محاربة الدولة السعودية الفتية والناشئة، حتى ضاعت بوصلة بعض القبائل بين مصلحة القبيلة وحلم الدولة. لكن عزيمة أئمة الدولة السعودية وملوكها الكبار كانت الوقود الذي تدفق في شرايين أبناء الجزيرة العربية، وهم يصنعون ملاحم المجد، ويناطحون قوى الغازي حتى ارتوت أرض الجزيرة من دماء أعدائها. نعم تلك التفاصيل تكشف أن دولة محمد علي باشا في مصر ومن خلفها الباب العالي في تركيا العثمانية كانت تريد لقبائل الجزيرة الخضوع والتبعية وسط ظلام الجهل ونقص الموارد، بينما شعوب العالم تعيش من حولنا في أوطانها بكل مقدراتها ومكتسباتها. نعم إن تلك التفاصيل تبرهن عن رغبة قبائل الجزيرة في خيمة تظلها وقوة تحميها، فكانت الدولة السعودية التي جمعت الكلمة، ووحدت القبائل، وأمنت الطرق، وحفظت الحقوق، ومنعت الغزو، فصار للناس إمام، وراية، وكيان، وموارد، تشكلت بدولة واحدة. لهذا كان يوم التأسيس - 22 فبراير 1727م - علامتنا الفارقة في سجل تاريخ الجزيرة العربية، وبدايتنا الصادقة نحو بناء دولة عظيمة، وأول حرف من كلمة وحدتنا، ليعلم الأجيال من أبنائنا وبناتنا أن لهم في التاريخ مجد، ولهم في المجد عنوان اسمه المملكة العربية السعودية.