د. سعد بن سعيد القرني
عند استعراضي لوثيقة يوم التأسيس الصادرة عن دارة الملك عبدالعزيز المنشورة في الموقع الرسمي ليوم التأسيس لفت نظري المسار القيادي ونمطه بدءاً من مرحلة «الدولة المدينة» الممثلة بالدرعية وهي إمارة قديمة تأسست عام 1446م بقيادة الأمير مانع بن ربيعة المريدي الجد الثاني عشر للملك عبدالعزيز ثم تلاها «الدولة الدولة» الممثلة بالدرعية العاصمة ونطاق جغرافي واسع تبعها عدد كبير من قرى وبلدات نجد مع نفوذ سياسي واقتصادي وأمني قوي صنع مرحلة من الاستقرار والازدهار بقيادة الإمام محمد بن سعود بدءاً من عام 1727م وهو التاريخ الرسمي ليوم التأسيس (22-2-1727م) وهو يمثل أهمية استراتيجية كبرى كونه أسس لمفهوم الدولة سياسياً واقتصادياً واحتماعياً فكراً وواقعاً واستمرت حتى عام 1818م ممثلة بالدولة السعودية الأولى وتلاها الدولة السعودية الثانية بقيادة الإمام تركي بن عبدالله عام 1824م والدولة السعودية الثالثة عام 1902م بقيادة الملك عبدالعزبز ورمزيتها استعادة مدينة الرياض واستمرت بأبنائه من بعده والممتدة حتى يومنا هذا بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان وولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، ويومها الوطني (23-9-1932م) كسياق ممتد ليوم التأسيس الحاضن الأساس لمفهوم الدولة ومكتسباتها ويمثل يوم التأسيس واليوم الوطني يومين للمملكة العربية السعودية لاستذكارهما عبر الأجيال رمزاً لدولة باستكمالها بنيتها المؤسسية والتنظيمية ومعترفاً بها دولياً وأصبحت عضواً في هيئة الأمم المتحدة عام 1945م.
إن استعراض هذا المسار التاريخي المجيد بقراءة تحليلية استقرائية تقود للاستدلال على النطاق الكامل للقيادة التحويلية بكل عناصرها وسماتها وهي إحدى الأنماط القيادية الحديثة التي وضع مفهومها وأسسها جيمس داونتون في عام 1973م وتم تطوير هذا النمط القيادي بواسطة جيمس بيرنز في عام 1978م. إن القيادة التحويلية نمط مميز وذو فاعلية في صناعة التغيير وتمكين أهدافه في الواقع بتفاني القائد وولاء التابعين من خلال أربعة عناصر أساسية تمثل هذا النمط القيادي وهي التأثير المثالي (دور نموذجي، تطابق الأفعال مع الأقوال، حماسة، تجسيد قيمي)، والتحفيز المُلهم (رؤية واضحة، تفاؤل، شمولية، إنتاجية)، والاستثارة الذهنية (الابتكار، الإبداع، صناعة الأهداف، تحدي الأفكار) والاعتبار الفردي (الإرشاد، التعاطف، غرضي محدد، دعم وتمهير).
فالقيادة السعودية عبر تاريخ حكمها تتسق مع هذا النمط القيادي سماتٍ وخصائصَ ويعدُّ قادتها الأمير مانع بن ربيعة المريدي مؤسس إمارة الدرعية والإمام محمد بن سعود مؤسس الدولة السعودية الأولى والإمام تركي بن عبدالله مؤسس الدولة السعودية الثانية والملك عبدالعزيز مؤسس الدولة السعودية الثالثة الممتدة إلى وقتنا الحاضر بقيادة الملك سلمان وولي عهده الأمير محمد بن سلمان علامات مفصلية للقيادة السعودية التحويلية في بيت الحكم السعودي المبارك. وبمراجعة سريعة لأهم السمات الشخصية والخصائص والأفعال لهؤلاء القادة يمكن أن ترى ذلك بوضوح، وسأتناول في هذا الصدد مقتطفات من ذلك.
فالتأثير المثالي (الكارزمي) للشخصية وحدة البصيرة قوة جذب ملفتة ونموذجاً للحكمة وللسلوك القيمي والأخلاقي العالي لهؤلاء القادة وولاة الأمر أكسبتهم الولاء والاحترام والثقة والطاعة من قبل الشعب السعودي عبر مئات السنين أدى إلى إجماعهم حول رؤية مشتركة من خلال مجالس وفرق عمل يتم فيها طرح الأفكار ومناقشة المشكلات والتحديات والاستماع بفعالية إلى كل عضو في الفريق والثناء عليهم مع كل نجاح، وهم أول من يتحمل المسؤولية عندما تسوء الأمور. إن القادة التحوليين في الدولة ذوو شخصية كارزمية مهمتهم إيجاد حلول للمشاكل وابتكار وتبني مسارات تحقق الأمن والسلام والرفاهية للتابعين لهذه الدولة، إن الكاريزما تصنع الأثر الفعال في التابعين بكل فئاتهم وأدوارهم في المجتمع ويتكون لديهم اعتزاز بولي أمرهم ويؤيدونه بحماسة ويعتبرونه نموذجاً يحتذى، والأمثلة على ذلك كثيرة فمؤسس إمارة الدرعية الأمير مانع المريدي قائد تحويلي حقق بتأثيره المثالي الكارزمي دولة «المدينة» وهي مدينة بسلوك وتطلعات دولة. أما الإمام محمد بن سعود فقائد تحويلي ذو عبقرية انتقل من دولة «المدينة» في الدرعية إلى مرحلة الدولة وأصبحت مركزاً لاستقطاب البلدات والقرى المحيطة وذات نفوذ وتأثير وواجه التحديات وصنع الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي وأمن الحج والتجارة في المنطقة واستحق بجدارة أن ينسب له المؤسس «يوم التأسيس» وهي الدولة السعودية الأولى. ويمثل الإمام محمد بن سعود مثالاً قوياً وجلياً للقائد التحويلي فلديه من السمات والخصائص ما يجسد ذلك، فعرف عنه صفات متعددة كالتدين وحب الخير والشجاعة والقدوة والقدرة على التأثير، وكان حاكماً وفياً تربى في بيت عز وإمارة وتعلم السياسة وطرق التعامل مع الإمارات المجاورة والعشائر المتنقلة، وقد كان له أثر كبير في استتباب الأوضاع في الإمارة قبل توليه الحكم، وتحلى برؤية ثاقبة والتخطيط للتغير عن النمط السائد آنذاك، فأسس مساراً جديداً في تاريخ المنطقة تمثل في الوحدة والتعليم ونشر الثقافة وتعزيز التواصل بين أفراد المجتمع وكان محباً للخلوة والتأمل والتفكر وذو شخصية قادرة على الاستقراء والتأني والرؤية المستقبلية.
أما الإمام تركي بن عبدالله مؤسس الدولة السعودبة الثانية فهو قائد تحويلي من طراز مختلف حيث استعاد الحكم على أنقاض سقوط الدولة السعودية الأولى بسبب الغزو العثماني البغيض، فقيادته كانت سرية استخباراتية بقوة وجسارة مارس من خلالها الدور التحويلي واقتبس ما يجسد ذلك حيث «كان تركي بن عبدالله اسمًا يزلزل الأتراك على الأرض في مقر الحاميتين العثمانيتين منفوحة والرياض، وفي الوقت ذاته فُتن الناس بما سمعوه من بطولات الإمام وجسارته وقوته. واجه الإمام تركي قوات حامية الرياض في عرقة، وكان يقاتلهم بطريقة مختلفة أرهقتهم وجعلتهم يعون عجزهم أمامه، ويعيشون القلق الدائم من احتمالية الهجوم في كل وقت وحين، خاصةً وأنه تم قطع التواصل بين الحاميتين ومركز قيادتهما المباشرة في المدينة المنورة. وبعد حصار قرابة 20 يومًا لحامية منفوحة، أُجبرت الحامية على مغادرة البلدة بعد أخذها الأمان بالرحيل، كما شدد الإمام تركي حصاره على حامية الرياض، وبعد مواجهات شرسة بينه وقوات الحامية وحصار استمر لأشهر، بعدها أيقن المُحاصرون أنهم لا بد أن يستسلموا والفوز الذي يطمحون إليه كان رحيلهم من دون أن تحدث في حقهم مذبحة، وكانت قوات هذه الحامية آخر القوات العثمانية الراحلة، بعدها أعلن الإمام تركي عن قيام الدولة السعودية الثانية وعاصمتها الجديدة الرياض». فقيادته تحويلية من الطراز العسكري الفذ استمد من الشعب السعودي الولاء والمساندة في مشروع استعادة الدولة وهو مشروع عالي المخاطر وبالرغم من ذلك وبتأثيره القيادي التحويلي صنع التغيير وحقق الأهداف الاستراتيجة. «لقد أسس الهوية الوطنية وحرر الجغرافيا من فم النسيان».
وبنفس السياق، فإن الملك عبدالعزيز اجتمعت فيه القيادة التحولية العسكرية والتنموية فحرر البلدات والقبائل من الصراعات والتشرذم وأسس المملكة العربية السعودية، الدولة السعودية الثالثة، بحجم قارة مستقرة حازت على الإعتراف الدولي وعقدت اتفاقية استراتيجية مع أكبر قوة عظمى. إن مناقب الملك عبدالعزيز وسماته وخصائصه القيادية التحويلية يصعب حصرها في مقال، لقد كان من أبرز القادة المتميزين في تسخير المصادر والفرص المتاحة واستقطاب العقول والخبرات محلياً وإقليمياً وعالمياً في رؤية شاملة وأهداف سامية قادت لتوحيد شعب وبناء وطن ورسم خارطة طريق لأبنائه من بعده لتعزيز الاستقرار والنماء.
وامتداداً للدولة السعودية الثالثة، يقوم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بقيادة المملكة العربية السعودية قيادة تحويلية تستهدف تحويل المملكة من دولة حليفة إلى قوة إقليمية. ففي إطار رؤية 2030 التي يقوم بتنفيذها ولي العهد وفرق عمل تكنوقراطية وطنية وعربية وأجنبية مثالاً عظيماً وجلياً للقائد التحويلي، فلديه تأثير كارزمي وفهم عميق للمتغيرات المحلية والإقليمية والدولية واستقراء للفرص المتاحة واستغلالها والانفتاح على فئة الشباب والشابات لإحداث التغيير وكسب ولاء المواطنين وإشراكهم في عمليات التطوير من خلال الاستثارة والتحفيز الذهني الفكري التي يتحدى بها القائد الواقع ويتحمل المخاطر، ويلتمس أفكار أتباعه العاملين معه.
إن النمط القيادي التحويلي للأمير محمد بن سلمان يتبع الأسلوب التحفيزي الملهم ويجعل العاملين معه والمواطنين يفكرون بشكل إبداعي إبتكاري إيماناً بالقائد ورؤيته. إن التحفيز الملهم كسمة من سمات القيادة التحويلية وكأداة لتحقيق مشروع قوة إقليمية ذات معايير وشفافية ومصداقية تتسق مع النظام الدولي أهم مساعيها وأهدافها الاستراتيجية السلام والاستقرار والتنمية والأمن والأمان، تتطلب نشر هذا النمط القيادي في الدولة وقد تحقق بالفعل، لقد انتشرت القيادة التحويلية في جميع قطاعات الدولة السعودية وموسساتها الحكومية. فرؤية 2030 هي ركن أساسي في قيادة وتوجيه وإدارة مشروعات الدولة بآليات القيادة التحويلية بدوافع ملهمة وبمعايير عالية، وبتفاؤل بشأن الأهداف المستقبلية وبفهم عميق للخطة والبرامج التي بين أيديهم. إن الاعتبار الفردي لدى الأمير محمد بن سلمان وهو الدرجة التي يهتم بها القائد باحتياجات كل من يعمل معه ويدعمه كموجه ويستمع إلى اهتماماته واحتياجاته ويقدم له التعاطف والدعم السياساتي والإداري واللوجستي، ويبقي التواصل مفتوحاً، ويضع التحديات أمام أتباعه كفرص للنجاح. يشمل ذلك الاحترام والاحتفاء بالمساهمة الفردية التي يمكن لكل مسؤول تقديمها للفريق في قطاعات الدولة وهيئاتها الإدارية التي أصبحت أكثر إنتاجية بالإدلة والأرقام والبيانات، إن الجمع بين هذه العوامل لدى القيادة السعودية في هذه الحقبة أدت إلى تطوير مسار الدولة نحو الجودة والإنتاجية بشكل جذري وصنعت تطلعات مستقبلية لقيادة رشيدة وشعب ذي ولاء عميق متجذر منذ أكثر من ثلاثمائة عام. حفظ الله المملكة العربية السعودية قيادة وشعباً.
** **
- أستاذ التاريخ السعودي المشارك