د. نايف هشال الرومي
ونحن نتحدث عن تأثير التقدم التقني وتطوراته على التعليم والتعلم، ينبغي ألا ننسى بناء الإنسان، إذ ليس من أهداف التعليم تزويد الطلاب بالمعارف والمهارات فقط، بل بناء الإنسان، بناء المواطن الصالح القادر على المساهمة وبشكل جاد ومهني في تطور مجتمعه وأن يكون منافسًا عالمياً، وفي هذا السياق يقال في أدبيات سياسات التعليم: إن التعليم هو الإطار الأساسي الذي يحافظ على تماسك المجتمع، ومن خلاله يمكن للمجتمع أن يعزِّز التكامل بين الأجيال داخل نسيجهم الاجتماعي ويعزِّز المواطنة الصالحة، ولهذا ينبغي أن تعكس رؤية التعليم وإستراتيجيتها هذه المعطيات بشكل واضح لا لبس فيه.
إن التعليم ليس مجرد فكر أو نظرية أو إستراتيجية أساسية في حياة الأمم، بل يعتبر رحلة حياة يحتاج إليها ويطلبها الجميع، ومع المتغيرات السريعة التي تحدثنا عنها سابقاً ولا يمكن إنكارها أن التعليم بشكله وأدواته الحالية يواجه تحديات ويتطلب إصلاحات هيكلية غير مألوفة ولا اعتيادية. يجب أن تشمل الإصلاحات مكونات النظام التعليمي والتي تشمل بشكل عام مؤسساته والسياسات والإجراءات والعمليات التي تؤثر في الحالة التعليمية، وبشكل أدق تتطلب هذه الإصلاحات خططًا تطويرية لمفهوم إدارة التعليم والمدرسة، ووضع سياسات تحفيزية وخطط للتطوير المهني للمعلمين وتعزيز وتشجيع استخدام تقنيات التعليم والمشاركة الأسرية بشكل فاعل. كل هذا يتطلب وبشدة نقل عملية التعليم من المفهوم القديم القائم على التلقين وتطبيق بعض الاستراتيجيات التدريسية البسيطة إلى مفهوم جديد قائم على تعليم تشاركي وتفاعلي جوهره الإبداع والابتكار والتفكير خارج كل الصناديق.
ما سبق يدعونا إلى طرح التساؤلات التالية: ماذا يحتاج النظام التعليمي لكي يكون فعالاً؟ ماذا يحتاج النظام التعليمي ليكون ذا جودة عالية، ويكون خريجوه قادرين على المنافسة عالمياً؟ ماذا يحتاج النظام التعليمي لكي يكون مشاركاً في بناء الاقتصاد الرقمي؟ وأخيراً، هل نتمسك بطرق التدريس التقليدية مع دمج التقنية لتكون أكثر جذباً وتزيد من جودة التحصيل؟
إن الكثير من الأنظمة التعليمية العالمية، بل وحتى الأفضل عالمياً منها ترى أن نظامها التعليمي أصبح تقليدياً مقارنة بالتغييرات السريعة في مجال التقنية الرقمية وتطبيقاتها المتعددة والتي أثرت وبشكل كبير على الجيل الجديد من الطلاب. إن التغييرات الجذرية الحاصلة في الصناعة والمواصلات والتعاملات البنكية وغيرها تدفع وبشدة النظام التعليمي ليحذو حذوها ويواكبها. في ظني ليس مطلوباً من النظام التعليمي أن يتماشى بشكل مستمر مع التطورات التقنية المتسارعة، ولا أظنه من المجدي ملاحقة تلك التطورات. وفي نفس الوقت لا ينبغي على تلك الأنظمة التعليمية الجمود والتمسك بأدوات الماضي وأساليبه.
على هذا الأساس، من اللازم بناء نظام تعليمي قادر على الدمج بين أساليب التدريس التقليدية الفاعلة وذات الأثر الكبير مع استخدام التقنية بشكل فاعل لتسهيل عملية التعلم ولتكون البيئة التعليمية مرتبطة بالواقع ومستجداته. نظام تعليمي رؤيته تتسق مع الرؤية الوطنية وبرنامج بناء القدرات البشرية وتساهم في تحققيها، وفق إستراتيجية تعليمية ذات تركيز عالٍ على عناصر عملية التعليم والتعلم ذات الأثر الأكبر في رفع مستوى تحصيل الطلاب وجودة التعليم وجعله تعليماً منافساً عالمياً.
نظام تعليمي مفاهيمه الأساسية:
- الإبداع والابتكار.
- المشاركة الحقيقية للأسرة والمجتمع.
- تعليم تعاوني تشاركي.
- قائم على الفهم والاستنباط والمشروعات.
- يحقق مفهوم التعليم للجميع والتعلم مدى الحياة.
ويقود هذا النظام معلمون مميزون، التنافس بينهم عالٍ والثقة فيهم مرتفعة، وقلب هذا النظام المحاسبية والتقويم وأدواته التقنية.
نحتاج إلى إعادة بناء نظام المدرسة الحالي، حيث توصف المدرسة الحالية بأنها وحدة تعليمية تحت مظلة مكتب تعليم في إدارة تعليم تحت مظلة الوزارة. مدرسة لها مشرف تربوي زائر ومدير مدرسة ومعلمون مطلوب منهم تنفيذ برامج وأنشطة واختبارات محددة الوقت والتاريخ مسبقاً من الوزارة، بسبب مركزية النظام التعليمي. هذه المركزية والدرجة العالية من الانضباط لا تجعل عملية التعليم والتعلم داخل المدرسة ممتعة أو جاذبة لا على مستوى المعلمين ولا الطلاب على حداً سواء. في مثل هذا النظام التعليمي تصبح الأصوات غير مسموعة، ومفهوم التحصيل الدراسي وقياسه قائم على قياس الجانب الأكاديمي الصرف، فعملية التقويم والقياس لا تبحث بعمق عن اكتساب المعرفة والمهارة، نظام معاييره شاملة كل الطلاب ولا يوجد مفهوم للتعليم الفردي على سبيل المثال. ولهذا فإن الكثير من المتخصصين يتساءلون: هل التحصيل هو فقط القراءة والكتابة والعلوم والرياضيات؟ والسؤال الأهم هل هذا المفهوم للتحصيل يحقق للطلاب المنافسة عالمياً ويعكس أهداف الرؤية الوطنية ويساهم في الاقتصاد الرقمي؟ إن النظام التعليمي الذي يقيس التحصيل والإنجاز الطلابي وفق ما ذكرناه سابقاً لا يسمح بالإبداع والابتكار في المدرسة لأنه ببساطة لا يساعد على ذلك.
مما سبق يتبين لنا أن تحقيق بناء نظام تعليمي يحقق المفاهيم الأساسية السابق ذكرها يتطلب إعادة هيكلة كاملة للنظام التعليمي نظراً لصعوبة البناء على النظام الحالي.
بناء نظام يجعل الطالب هو المركز ويعطي المدرسة مساحة أكبر للتحرك والتطوير وتكون مسؤولة عن جودة طلابها وتعليمهم، ومعزّزة للمشاركة الأسرية والمجتمعية وتحقق مفهوم الإبداع والابتكار. لابد من إعطاء المدرسة المزيد من الاستقلالية مع توفير الآليات الضرورية لتطبيق مفهوم الاستقلالية لتكون هي ليس فقط وحدة التطوير ولكن لتكون مركز الإبداع والابتكار والتفاعل. عند إعطاء المدرسة استقلالية أكبر ولقائدها صلاحيات أكبر لإدارة مدرسته ومسؤولية أعلى وفي الوقت نفسه يخضع لنظام محاسبي وتقويم مستمر، فنحن في الخطوات الصحيحة نحو تعليم مميز.