العقيد م. محمد بن فراج الشهري
تشكل التقنيات الحديثة تهديداً بيئياً، فالتصنيع المفرط واستنزاف الموارد الطبيعية أدى إلى تلوث الهواء والماء والتربة، وساهم في ظاهرة الاحتباس الحراري التي تهدد الكرة الأرضية.
وتحذر دراسة حديثة من أن انبعاثات ثاني أكسيد الكربون الناجمة عن تكنولوجيا المعلومات وحدها ستصل إلى أكثر من ضعف مستوياتها الحالية بحلول عام2040.
وعلى الصعيد الاجتماعي، أدى إدمان مواقع التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية إلى عزلة اجتماعية ومشاكل نفسية لدى كثير من المستخدمين، ولاسيما الأطفال والمراهقين، مثل الاكتئاب وضعف التركيز واضطرابات النوم. كما سهلت التقنيات الحديثة انتشار الأخبار المضللة وأدت إلى تفاقم الانقسام السياسي في كثير من المجتمعات المعاصرة.
غير أن الآثار السلبية للتقدم التكنولوجي لا تقتصر على الإنسان والبيئة، بل تمتد كذلك للاقتصاد وسوق العمل والمجتمعات ككل.
لذا فمن الضروري وضع ضوابط وقوانين أخلاقية صارمة لتنظيم تطوير التقنيات واستخدامها، بالإضافة إلى نشر الوعي بين أفراد المجتمع حول الجوانب الإيجابية والسلبية للتقدم التقني.
تهديد الخصوصية وأمن البيانات مع تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي:
مع التطور الهائل في الذكاء الاصطناعي تطورت أيضاً تقنيات المراقبة والتي أثارت مخاوف مشروعة بشأن تهديد الخصوصية وأمن البيانات الشخصية، حيث أصبح بإمكان الشركات جمع معلومات دقيقة عن نشاطات الأفراد وتفاصيل حياتهم الخاصة بطرق لم تكن ممكنة من قبل.
وقد سهل انتشار الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي والتطبيقات عملية جمع البيانات الشخصية وتحليلها، ما يتيح استهداف الأفراد بالدعاية الموجهة أو المضللة أو حتى ابتزازهم. كما تتيح تقنيات التعرف على الوجوه وبصمات الأصابع والحركة مراقبة أفعال الأشخاص في الأماكن العامة بشكل مستمر.
وفي ظل غياب تشريعات صارمة لحماية الخصوصية، فإنه من السهل اختراق قواعد البيانات وسرقة المعلومات الحساسة أو بيعها لجهات غير مصرح لها. وهو ما يشكل تهديداً مباشراً لأمن الفرد والمجتمع.
إمكانية استخدام التقنيات في أغراض غير أخلاقية كالحروب والجرائم:
من أبرز المشكلات التي نتجت عن التطور التقني، الاستخدام غير المشروع في الحروب والجرائم، مثال على ذلك؛ فقد استخدمت روسيا تقنيات متطورة في شن حربها على أوكرانيا مثل الطائرات بدون طيار وأسلحة الليزر والقدرات السيبرانية، ما سبب دماراً هائلاً وخسائر بشرية كبيرة. كما استخدمت تقنيات الدعاية والأخبار المضللة عبر وسائل التواصل للتأثير على الرأي العام.
وفي المقابل، اضطرت أوكرانيا لتوظيف التكنولوجيا بشكل دفاعي من خلال شبكات المراقبة والدفاع الإلكتروني والطائرات بدون طيار لمواجهة الهجوم الروسي. وبعيداً عن حرب روسيا فقد تم استغلال تقنيات الذكاء الاصطناعي في التزييف العميق أو كما يعرف Deepfake حيث أصبح بالإمكان استخدام الذكاء الاصطناعي لدمج الصوت والصورة وإنتاج مقاطع فيديو وتسجيلات صوتية مزيفة تبدو وكأنها حقيقية تماماً؛ مما يتيح نشر معلومات مضللة على نطاق واسع دون القدرة على التحقق من مصداقيتها. وقد استخدمت تقنية Deepfake بالفعل لنشر شائعات سياسية وإشاعات حول شخصيات عامة منها تصريحات مضللة تم تزييفها للرئيس الأمريكي السابق ترامب والتي شكلت تهديداً للأمن القومي حيث تم استخدامها من قبل جهات معادية لبث معلومات مضللة وإثارة الفتن.
(بوتات) تعرية الصور الجنسية على تيليجرام:
للوهلة الأولى قد يبدو الموضوع غريباً لدى الكثير من غير المتابعين لتطور الذكاء الاصطناعي الهائل خلال السنوات القليلة الماضية الذي شجع عدداً من الشركات سيئة السمعة على استغلال هذه التقنيات بشكل غير أخلاقي.
حيث رصد فريق في أوش للتكنولوجيا وصناعات الذكاء الاصطناعي وجود أكثر من 30 بوتاً على تليجرام مُدرباً بشكل احترافي لتعرية الصور وتحويلها إلى صور جنسية مزيفة يصعب اكتشافها بهدف الابتزاز، الأمر الذي جعل حياة العامة وبخاصة السيدات والبنات في خطر كبير نتيجة هذا الاستخدام الخاطئ.
والغريب في الأمر أن هذه البوتات جميعها تعمل بشكل مستمر على تطبيق تليجرام دون أدنى رقابة من الشركة لوقف هذه البوتات الخطرة، ولعل المفاجأة الكبرى التي كنا لا نتوقعها هي أن هذه البوتات مرتبطة بتطبيقات أخرى يتم تداولها بشكل كبير على الإنترنت المُظلم ويتم استخدامها في إنتاج الأفلام الإباحية.
خروج الذكاء الاصطناعي عن السيطرة:
في الفقرات السابقة أردت أن أوضح بشكل مبسط مخاطر التطور التقني على الأفراد والمجتمعات، لكنني أيضاً أردت التحدث هنا عن سيناريو افتراضي ربما يحدث مستقبلاً وهو إشكالية استدعت البحث الدقيق، حيث يعد سيناريو خروج الذكاء الاصطناعي عن السيطرة من المخاوف المستقبلية المرعبة التي يمكن أن تشكل تهديداً على بقاء البشرية، إذ إنه في حال تفوقت الآلات الذكية على العقل البشري وأصبح بإمكانها إعادة برمجة نفسها والتعلم الذاتي، فلن تعود خاضعة لأي ضوابط أو رقابة من البشر.
وهو ما يعني أنه لن تكون هناك أي ضمانات حول استخدام هذه الأنظمة الذكية لما فيه مصلحة البشرية، بل إنها قد تتخذ قرارات تضر بوجود البشر أو تسبب دماراً لا يمكن تصوره.
ولتفادي هذا السيناريو يتعين على الحكومات والمنظمات الدولية اتخاذ خطوات عملية وفورية. فمن الضروري وضع معايير أخلاقية صارمة لتنظيم تطوير الذكاء الاصطناعي والحد من مخاطر إساءة استخدامه. كما يجب سن تشريعات تحدد المسؤوليات القانونية حال حدوث أي آثار سلبية.
ولابد من إنشاء هيئة رقابية دولية للإشراف والتحقق من التزام الجهات المعنية بهذه الضوابط، إلى جانب تشجيع الأبحاث حول ضمان بقاء الذكاء الاصطناعي تحت السيطرة البشرية، ونشر الوعي العام حول هذه المخاطر.
إن التعاون الدولي أمر بالغ الأهمية لوضع آليات مشتركة تكفل الحد من هذا التهديد المحتمل على المستقبل البشري.
إن التطور التكنولوجي الهائل الذي شهده العالم في العقود الآخيرة قد غير بلا شك مجرى التاريخ البشري، وكان له آثار إيجابية كبيرة على مستوى معيشة البشر ونوعية حياتهم، إلا أنه في الوقت ذاته أحدث تحديات ومخاطر جمة ينبغي التعامل معها بحكمة وحزم. فالتقدم التقني ليس غاية في حد ذاته وإنما وسيلة يجب توظيفها لخدمة البشرية ورفع مستوى رفاهيتها، وعليه فمن واجبنا جميعاً، سواء على مستوى الأفراد أو المؤسسات أو الحكومات التعامل مع هذا التقدم بحكمة ومسؤولية، ووضع الضوابط والقوانين اللازمة لضمان استخدام التقنيات الحديثة فيما يعود بالنفع على البشرية جمعاء، ففي ذلك تكمن الحكمة الحقيقية لهذا العصر ونتنبه لما قد تحدثه خارج المسارات الطبيعية.